الامامة الالهية(5) المجلد 3

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهیه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلی بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهری : ج 3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرست نویسی براساس اطلاعات فیپا

یادداشت : کتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولایت

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلی، 1345 - مقرر

رده بندی کنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 81-28236

الامامة الالهية (3)

الفصل السابع: ليلة القدر حقيقة الإمامة (أُس المعرفة) … ص: 273

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 275

ليلة القدر في أقوال أهل سنة الجماعة … ص: 275

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: (أجمع المفسّرون علي أنّ المراد إنّا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنّه تعالي ترك التصريح بالذكر؛ لأنّ هذا التركيب يدلّ علي عظم القرآن.

للقرآن نزولان: … ص: 275

إن قيل: ما معني إنّه أُنزل في ليلة القدر مع العلم بأنّه أُنزل نجوماً؟ قلنا فيه وجوهاً:

أحدهما: قال الشعبي: إبتدأ بإنزاله ليلة القدر؛ لأنّ البعث كان في رمضان.

والثاني: قال ابن عبّاس: أُنزل إلي سماء الدنيا جملةً ليلة القدر، ثمّ إلي الأرض نجوماً.

معني القدر: … ص: 275

اختلفوا في أنّه لِم سُمِّيت هذه الليلة ليلة القدر علي وجوه:

أحدها: إنّها ليلة تقدير الأُمور والأحكام. قال عطاء عن ابن عبّاس: إنّ اللَّه قدّر ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلي مثل هذه الليلة من السنة الآتية، ونظيره قوله تعالي: «فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حْكيمٍ»، واعلم أنّ تقدير اللَّه لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 276

يحدث في تلك الليلة؛ فإنّه تعالي قدّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل «1»، بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة، بأن يكتبها في اللوح المحفوظ «2».

بقاء ليلة القدر في كلّ عام: … ص: 276

وهذا القول اختيار عامّة العلماء.. هذه الليلة هل هي باقية؟

قال الخليل: من قال إنّ فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرّة، والجمهور علي أنّها باقية.

وعلي هذا، هل هي مختصّة برمضان أم لا؟ روي عن ابن مسعود أنّه قال: من يقم الحول يصيبها، وفسّرها عِكرمة بليلة البراءة في قوله: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «3»

، والجمهور علي أنّها مختصّة برمضان، واحتجّوا عليه بقوله تعالي:

«شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ»، وقال: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان، لئلّا يلزم التناقض.

ليلة القدر عوض للنبيّ من غصب بني أُميّة الخلافة: … ص: 276

وقال في تفسير الآية «4» بوجوه:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 277

منها: روي القاسم بن فضل عن عيسي بن مازن، قال:

«قلت للحسن بن عليّ عليه السلام: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلي هذا الرجل فبايعت له، يعني معاوية، فقال: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي في منامه بني أُمية يطؤون منبره واحداً بعد واحد، وفي رواية ينزون علي منبره نزو القردة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ» إلي قوله: «خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ»، يعني ملك بني أُمية. قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر».

طعن القاضي في هذه الوجوه، فقال: ما ذُكر من «ألْفِ شَهْرٍ» في أيّام بني أُمية بعيد؛ لأنّه تعالي لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة، وأيّام بني أُمية كانت مذمومة.

واعلم أنّ هذا الطعن ضعيف؛ وذلك لأنّ أيّام بني أُمية كانت أيّاماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يمتنع أن يقول اللَّه: إنّي أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية.

تنزّل الملائكة علي أرواح البشر: … ص: 277

قال في تفسير قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ وَالرُّوحُ فيها»: إعلم أنّ نظر الملائكة علي الأرواح، ونظر البشر علي الأشباح.. فكذا الملائكة لمّا رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة اللَّه وطاعته أحبّوك، فنزلوا إليك معتذرين عمّا قالوه أوّلًا، فهذا هو المراد من قوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ»، فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن وظلمة القوي الجسمانية..

إنّ قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ» يقتضي ظاهره نزول كلّ الملائكة، ثمّ إنّ الملائكة لهم كثرة عظيمة.. والمروي أنّهم ينزلون فوجاً فوجاً، فمن نازل وصاعد كأهل الحجّ، فإنّهم علي كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلّية، لكنّ الناس بين داخل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 278

وخارج، ولهذا السبب مدّه إلي غاية طلوع

الفجر، فلذلك ذكر بلفظ «تَنَزَّلُ» الذي يفيد المرّة بعد المرّة.

والقول الثاني: وهو اختيار الأكثرين، أنّهم ينزلون إلي الأرض، وهو الأوجه؛ لأنّ الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة؛ ولأنّه دلّت الأحاديث علي أنّ الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلي مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علوّ شأنها أولي؛ ولأنّه روي عن عليّ عليه السلام: «أنّهم ينزلون ليسلّموا علينا وليشفعوا لنا، فمن أصابته التسليمة غُفِرَ له ذنبه».

من الروح النازل ليلة القدر؟ … ص: 278

وقال: ذكروا في الروح أقوالًا:

أحدها: أنّه ملك عظيم لو التقمَ السماوات والأرضين كان له ذلك لقمة واحدة.

وثانيها: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّافي ليلة القدر …

وثالثها: خَلْق من خلق اللَّه يأكلون ويلبسون، ليسوا من الملائكة ولا من الإنس، ولعلّهم خدم أهل الجنّة.

ورابعها: يُحتمل أنّه عيسي عليه السلام؛ لأنّه اسمه، ثم إنّه ينزل في مواقفه الملائكة ليطّلع علي أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله.

وخامسها: إنّه القرآن «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» «1».

وسادسها: الرحمة، قُرئ: «لا تَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللَّهِ» بالرفع، كأنّه تعالي يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم، فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 279

وسابعها: الروح أشرف الملائكة.

وثامنها: عن أبي نجيح: الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون، فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح.

والأصحّ أنّ الروح هاهنا جبرئيل، وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه، كأنّه تعالي يقول: الملائكة في كفّة والروح في كفّة.

أقول: إذا كان النازل هو جبرئيل عليه السلام كلّ عام، فعلي من يتنزّل جبرئيل عليه السلام بعد النبيّ صلي الله عليه و آله إلي يومنا هذا وإلي يوم القيامة؟!!

ما هي الأُمور التي تتنزّل بها الروح والملائكة؟ … ص: 279

وقال: وأمّا قوله تعالي: «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» فمعناه تنزّل الملائكة والروح فيها من أجل كلّ أمر، والمعني: إنّ كلّ واحد منهم إنّما نزل لمهمّ آخر ما. ثمّ ذكروا فيه وجوهاً:

أحدها: إنّهم كانوا في أشغال كثيرة، فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم بالدعاء، وكذا القول في التفكير والتعليم وإبلاغ الوحي، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة، أو ليسلّموا علي المؤمنين.

وثانيها: وهو قول الأكثرين- من أجل كلّ أمرٍ قُدّر في تلك السنة من خير أو شرّ، وفيه إشارة إلي أنّ نزولهم إنّما كان عبادة، فكأنّهم قالوا: ما نزلنا إلي الأرض لهوي أنفسنا، لكن لأجل

أمر فيه مصلحة المكلّفين، وعمّ لفظ الأمر ليعمّ خير الدنيا والآخرة؛ بياناً منه أنّهم ينزلون بما هو صلاح المكلّف في دينه ودنياه، كأنّ السائل يقول: من أين جئت؟ فيقول: ما لك وهذا الفضول؟ ولكن قُل: لأي أمرٍ جئت؛ لأنّه حظّك.

وثالثها: قرأ بعضهم «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»، أي من أجل كلّ إنسان، وروي أنّهم لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 280

يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلّاسلّموا عليه، قيل أليس أنّه قد رُوي أنّه تقسّم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان، والآن تقولون أنّ ذلك يكون ليلة القدر؟ قلنا:

عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللَّه يقدّر المقادير في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلي أربابها»، وقيل: يقدّر ليلة البراءة الآجال والأرزاق، وليلة القدر يقدّر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة، وقيل: يقدّر في ليلة القدر ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وأمّا ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلّم إلي ملك الموت).

وقال في سورة الشوري في ذيل قوله تعالي «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» «1»

: والمراد به القرآن، وسمّاه روحاً لأنّه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر.

وقال في سورة الدخان في ذيل قوله تعالي «إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «2»

، اختلفوا في هذه الليلة المباركة، فقال الأكثرون: إنّها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنّها ليلة البراءة.

وإنّه تعالي قال في صفة ليلة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ»، وقال أيضاً هاهنا: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حْكيمٍ»، وهذا مناسب لقوله: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ وَالرُّوحُ فِيها»، وهاهنا: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا»، وقال في تلك الآية «بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»، وقال هاهنا: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ»، وقال في

تلك الآية: «سَلامٌ هِيَ».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 281

اشتمال مراتب القرآن علي المقدّرات الحادثة في كلّ عام: … ص: 281

وقال (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ: أمّا قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «1»

فقد قيل فيه: إنّه تعالي أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلي ميكائيل ونسخة الحروب إلي جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلي إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلي ملك الموت، انتهي كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالي: «إنّا أَنْزَلْناهُ» يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعني معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ»، وقال: «حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «2»

يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعني إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ، إلي سماء الدنيا، إلي بيت العزّة، وأملاه جبريل علي السفرة، ثمّ كان جبريل ينزّله علي النبيّ صلي الله عليه و آله نجوماً نجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة، قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة. وحكي الماوردي عن ابن عبّاس قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلي السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون علي جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل علي النبيّ صلي الله عليه و آله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

282

ومحمّد عليهما السلام واسطة.

قوله تعالي: «في لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال مجاهد: في ليلة الحكم. «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ»، قال ليلة الحكم، والمعني ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالي يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلي مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والزرق وغيره، ويسلّمه إلي مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم السلام.

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي ء: … ص: 282

وقال: وعن ابن عبّاس قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتّي الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالي في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضي في أوّل سورة الدخان هذا المعني. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالي يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلي أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم:

لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) «1».

ليلة القدر عوض للنبي صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام عن غصب الخلافة: … ص: 282

ليلة القدر عوض للنبي صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 283

أَلْفِ شَهْرٍ»، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ» أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهي، ومسكن جبريل علي وسطها، فينزلون إلي الأرض ويؤمّنون علي دعاء الناس إلي وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالي «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ».

حقيقة الروح النازل ليلة القدر: … ص: 283

وقال: «وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ» «1»

أي جبرئيل عليه السلام، وحكي القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة علي سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نري نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالي.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّوجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكي القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه يأكلون الطعام ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة علي أهلها، دليله «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2»

، أي بالرحمة، «فِيها» أي في ليلة القدر، «بِإذْنِ رَبِّهِمْ» أي بأمره، «مِن كُلِّ أَمْرٍ» «3»

أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلي قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت يعني

ليلة القدر- وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 284

بقاء ليلة القدر في كلّ عام: … ص: 284

وقال: (والصحيح أنّها باقية.. والجمهور علي أنّها من كلّ عام من رمضان.. وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلّاالسعادة والنعم ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) «1».

وقال الطبري في تفسيره في ذيل سورة البروج: «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» بسنده إلي مجاهد في لوح قال: (في أُمّ الكتاب) «2».

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟ فقال الزهري.. وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلي يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) «3».

وقال الزمخشري في الكشّاف بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالي «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «4»

قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلي هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم.

وقال في ذيل قوله تعالي «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «5»

، أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلي قابل.. وروي عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيي ليلة القدر»، وذكر في هامش المطبوع أنّ الحديث أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلي أُبَيّ ابن كعب.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 285

ليلة القدر عوض له صلي الله عليه و آله عن غصب بني أُمية خلافته وتعدد مصادر الحديث لديهم … ص: 285

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالي عنهما): «أنّ النبي صلي الله عليه و آله اري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ

الْكَوْثَرَ» «1»

، ونزلت: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «2»

.. الحديث». وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهي.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي «3» أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب بلفظٍ: قال نبي اللَّه: «أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأنزلت «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»»، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام ما رواه الكافي بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «أُري رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في منامه بني أُمية يصعدون علي منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال:

يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلي السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَي عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ» «4»

، وأُنزل عليه: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 286

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) «1».

وروي الكليني عن علي بن عيسي القمّاط عن عمّه، قال: «سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه السلام علي رسول اللَّه صلي الله عليه

و آله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي ء من هذا. وصعد جبرئيل إلي السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَي عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ» «2».

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) «3».

وفي سند الصحيفة السجادية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أخذته نعسة وهو علي منبره، فرأي في منامه رجالًا ينزون علي منبره نزو القردة، يردّون الناس علي أعقابهم القهقري، فاستوي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه السلام بهذه الآية «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا»، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل علي عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحي الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحي الإسلام علي رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 287

ضلاله هي قائمة علي قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالي في ذلك: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلي الله عليه و

آله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتّي يأذن اللَّه تعالي بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم» «1».

وفي تأويل الآيات: «روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: قوله عزّ وجلّ: «خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ» هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» أيّ من عند ربّهم علي محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام» «2».

وفي تفسير القمّي: بسنده في معني سورة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» فهو القرآن.. قوله: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

أقول: تكثير الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلي الله عليه و آله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معني تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة علي أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله فتدبّر تبصر.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 288

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر: … ص: 288

وقال في ذيل قوله تعالي «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعي الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر: … ص: 288

وقال في ذيل قوله تعالي «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «1»

: لما فيه من الدلالة علي أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يعلم به إلّاعلّام الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة: … ص: 288

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية عن ابن عبّاس: «أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّي وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه السلام علي محمّد صلي الله عليه و آله بجواب كلام العباد وأعمالهم».. ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالي: «أَنْزَلْنَاهُ» من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟

فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضي، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 289

فذكر قولًا للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي وابن كثير، وضعّف قولهم، ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلي بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكي بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسي الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الاتقان قول أبي شامة: فإن قلت «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة، وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعني إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» ماضٍ ومعناه علي الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر.

ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالًا أُخر، ثمّ

قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلي عالم الشهادة، أو إثباته لدي السفرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلي القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر علي من تُنزّل؟ … ص: 289

وقال في معني ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك؛ لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 290

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلي أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلي ميكائيل عليه السلام، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلي جبرئيل عليه السلام، ونسخة الأعمال إلي إسرافيل عليه السلام، ونسخة المصائب إلي ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلي ملك الموت، واللَّه تعالي أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلي من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلي الأرض إلي من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع علي ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: «إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلي اثني عشر خليفة … كلّهم من قريش» «1».

أقوال علماء سنّة الجماعة في عوضية الليلة له عن غصب الخلافة: … ص: 290

قال في تفسير (ألف شهر): وقد سمعت إلي ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلي مُلك بني أُميّة، وكان علي ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر،

لا يزيد يوماً ولا ينقص

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 291

يوماً، علي ما قيل ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر علي ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذكر بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالي: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقي فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضي فهي مع من في ما بقي: … ص: 291

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟

قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره. وقال القسطلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: «يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية». ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلي الله عليه و آله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 292

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك

أكثر من أربعين قولًا، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركنا في إخفاء كلّ منهما ليقع الحدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلًا ورأساً، حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد علي وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلي الله عليه و آله، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّي الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة علي الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلّا أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة، وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسي عليه السلام، كما ذهبت إليه النصاري بعد النبيّ عيسي عليه السلام.

وقال: وقد روي عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك.

ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قوم.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 293

وهو معترض بحديث أبي ذر عند

النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر. «1»

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة: … ص: 293

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالي «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

: أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلي قابل وأظهره سبحانه وتعالي لهم، قاله غير واحد. ف (من) بمعني اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبوحاتم:

(من) بمعني الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر علي ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها علي المعني السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات. «3»

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل علي من شاء اللَّه تعالي من عباده: … ص: 293

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (إعلم أنّ ليلة القدر موجودة، وأنّها تُري ويتحققّها من شاء اللَّه تعالي من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصي. وأمّا قول القاضي عياض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً، فغلط فاحش

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 294

نبهتُ عليه لئلّا يُغترّ به) «1».

وقال في ذيل سورة الدخان في قوله تعالي «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

: أي الكتاب المبين الذي هو القرآن علي القول المعوّل عليه في «لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» هي ليلة القدر، علي ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي: «ليس لرائيها كتمها، ولا ينال فضلها أي كمالها إلّامن أطلعه اللَّه عليها»، انتهي. والظاهر أنّه عني برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها ممّا خُصّت به من الأنوار وتنزّل الملائكة عليهم السلام، أي نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلّاأهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالي من عباده. ثمّ حكي عن ابن

شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلّا نبيّنا صلي الله عليه و آله.

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ علي أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلي الله عليه و آله، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر: «إنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلي الله عليه و آله: أري رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر» «3».

وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً وغلط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم..

والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلي السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 295

مسامت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً علي جبرئيل عليه السلام وكان جبرئيل عليه السلام يجي ء به بعدُ إلي النبيّ صلي الله عليه و آله.

ليلة القدر في سورة الشوري والنزول الأول للقرآن: … ص: 295

وقال في ذيل قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «1»

: وهو ما أُوحي إليه عليه الصلاة والسلام، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه

عليه الصلاة والسلام قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلي إبراهيم عليه السلام، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة علي نحو إلقاء الزبور إلي داود عليه السلام. ففي «الكبريت الأحمر» للشعراني نقلًا عن الباب الثاني من «الفتوحات المكّية»: أنّه صلي الله عليه و آله أُعطي القرآن مجملًا قبل جبرئيل عليه السلام، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه السلام.

وعليه، فأوحينا مضمّن معني أرسلنا، والمعني: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحي الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه رضي اللَّه تعالي عنهما: أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يصعد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 296

إلي السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً «1».. وقال في ذيل قوله تعالي «وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ» أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 297

ليلة القدر في روايات أهل سنّة الخلافة … ص: 297

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلي يوم القيامة: … ص: 297

1- فقد روي عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف)، بسنده عن مولي معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم.. الحديث) «1»، ورواه عنه بطريق آخر «2»، ورواه كنز العمّال أيضاً «3».

2- وروي عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده عن ابن عبّاس، قال: «ليلة في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبداللَّه بن الهاد: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثم رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة» «4».

3- وروي عن ابن جرير، قال: «حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أباذر بمني، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبوذر: سألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان» «5».

4- وروي ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلي ابن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 298

أبي مرثد عن أبيه، قال: «كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطي، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: ليلة القدر كانت تكون علي عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلي يوم القيامة» «1».

5- أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: «عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان» «2».

أقول وفي هذه الرواية وإن كانت مقطوعة دلالة علي أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6- وروي الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: «قال رجل للحسن وأنا أسمع:

أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلّاهو أنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر فيها يُفرق كلّ أمر حكيم،

فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلي مثلها» «3».

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء: … ص: 298

قال ابن خزيمة في صحيحه «4»: باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلي الله عليه و آله، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم ممّن لا يفهم صناعة العلم أنّها متهاترة متنافية وليس كذلك، هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 299

مختلفة الألفاظ متّفقة المعني علي ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلي قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7- وروي بسنده إلي أبي مرثد، قال: «قال: لقينا أباذر وهو عند الجمرة الوسطي فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأسأل لها منّي، قلت: يارسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت علي الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلي يوم القيامة..

الحديث» «1»

، ورواه بطريق آخر أيضا في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان «2».

8- وروي النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر في ليلة القدر قال: «يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية».

9- وروي أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متي يقع الطلاق؟ بسنده إلي مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: «سألت أباذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلًا، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلي الله عليه و آله: في رمضان. قلت: وتكون مع

الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلي يوم القيامة» «3».

10- وفي صحيح ابن حبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلي أن تقوم الساعة، ثمّ روي بسند متّصل رواية أبي ذر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 300

المتقّدمة واللفظ فيها.. «تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟

فقال صلي الله عليه و آله: بل هي إلي يوم القيامة» «1».

وروي البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده «2»، وقال قبل تلك الرواية: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلي يوم القيامة وهي في كلّ رمضان … ثمّ نقل الخبر المزبور. وروي الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده «3».

11- وروي أحمد بن محمّد بن سلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متي يقع الطلاق؟ بسنده إلي سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: «سُئل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان». ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل علي أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلي الله عليه و آله في كلّ رمضان هذا المعني، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلي يوم القيامة «4»، ورواه بطرق اخري غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم السلام، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلًا: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه السلام، واستمرّت إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وهي مستمرّة إلي يوم القيامة نزولًا علي خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ

هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل علي عموم الخلافة الإلهية: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 301

خَلِيفَةً» «1»

من لدن آدم وفي أوصياء كلّ نبيّ حتّي أوصياء النبيّ الخاتم، وأنّ هذه السفارة الإلهية لم تزل متّصلة ما استمرّ بنو آدم في العيش علي الأرض.

استمرار نزول باطن القرآن في ليلة القدر إلي يوم القيامة: … ص: 301

12- وروي الطبراني في المعجم الكبير بسنده: (حدّثنا أحمد بن رشدين، ثنا أبوصالح الحراني سنة ثلاثة وعشرين ومئتين، حدّثنا حيان بن عبيداللَّه بن زهير المصري أبو زهير منذ ستّين سنة، قال: سألت الضحاك بن مزاحم عن قوله: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسِيرٌ» «2»

، وعن قوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

، وعن قوله:

«إِنَا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» «4»

، فقال: قال ابن عبّاس: إنّ اللَّه عزّوجلّ خلق العرش فاستوي عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجري بإذنه، وعُظمَ القلم ما بين السماء والأرض، فقال القلم: بم يا ربّ أجري، قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من مطر أو نبات أو نفس أو أثر، يعني به العمل أو الرزق أو الأجل، فجري القلم بما هو كائن إلي يوم القيامة فأثبته اللَّه في الكتاب المكنون عنده تحت العرش. وأمّا قوله «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فإنّ اللَّه وكّل ملائكته يستنسخون من ذلك الكتاب كلّ عام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلي مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به حفظة اللَّه علي العباد كلّ عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافق لما في كتابهم ذلك، ليس فيه زيادة ولا نقصان) «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

302

أقول: في تفسير ابن عبّاس لهذه الآيات عدّة أُمور:

الأوّل: كلّ ما كان وما يكون وما هو كائن فهو مستطرّ مكتوب في الكتاب المكنون، الذي هو الوجود الغيبي للقرآن الكريم.

والثاني: إنّه يتنزّل منه ليلة القدر ما يتعلّق بكلّ سنة، وهذا يقتضي احتواء القرآن الكريم، وكذا ما ينزل منه ليلة القدر لكلّ تقدير في الخلق، وقدر كلّ كائن وتكوين.

والثالث: إنّ ما يتنزّل ليلة في كلّ عام هو ما وراء لفظ التنزيل، فلا تقتصر حقيقة القرآن وباطنه وتأويله علي ظاهر لفظ المصحف.

والرابع: إنّ عشية كلّ خميس أي ليلة الجمعة هناك معارضة الكتبة الحفظة علي العباد من أعمال، وبين ما نزل من الكتاب المكنون من القرآن في ليلة القدر.

وهذه الأُمور الأربعة أُشير إليها بنحوٍ مستفيض في روايات أهل البيت عليهم السلام كما سيأتي، ولا غرو في ذلك؛ لأنّ ابن عبّاس قد نهل من أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام فعرف منهم هذا المقدار، وإن خفي عليه ما هو أعظم.

فيتحصّل من كلامه:

الخامس: اشتمال القرآن لكلّ علم وجميع العلوم.

السادس: إنّ ما ينزل في ليلة القدر من كلّ عام إلي يوم القيامة هو من باطن القرآن.

السابع: فباطن القرآن لا زال يتنزّل في كلّ عام إلي يوم القيامة، وقد ذُكر كلّ ذلك في روايات أهل البيت عليهم السلام.

الثامن: إنّه يتمّ معارضة أي مطابقة ما ينزل منه ليلة القدر في كلّ أُسبوع، كما قد حصل للنبيّ صلي الله عليه و آله معارضة ظاهرة التنزيل كلّ عام مع جبرئيل عليه السلام.

13- وروي البيهقي في فضائل الأوقات بسند متّصل إلي أبي نظير، قال: يفرّق

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 303

أمر السنة كلّها في ليلة القدر، بلائها ورخائها ومعاشها إلي مثلها من السنة «1».

تباين حقيقة النازل من القرآن في المرتين تكرّر نزول جملة القرآن مرّتين بل أكثر إلي يوم القيامة: … ص: 303

14- روي الطبراني في المعجم الكبير،

بسند متّصل إلي ابن عبّاس في قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال: أُنزل القرآن جملة واحدة حتّي وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزّله جبرئيل علي محمّد صلي الله عليه و آله بجواب كلام العباد وأعمالهم «2».

15- وروي ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب القرآن متي نزل، بسند متّصل عن ابن عبّاس في قوله «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال: رفع إلي جبرئيل في ليلة القدر جملة، فرفع إلي بيت العزّة، جعل ينزل تنزيلًا «3».

16- وروي النسائي في السنن الكبري بسند متّصل عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في رمضان في ليلة القدر إلي السماء الدنيا، فكان إذا أراد اللَّه أن يحدث شيئاً نزل، فكان بين أوّله إلي آخره عشرين.

وروي مثله بخمسة طرق أُخري كلّها عن ابن عبّاس، وزاد في بعضها، قال: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» «4»

، وقرأ:

«وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النَّاسِ عَلَي مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» «5».

وفي طريق آخر منها زاد، وذلك «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ» «6». «7»

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 304

17- وروي الطبراني في المعجم الأوسط، قال: روي نزول القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلي السماء الدنيا جملة ثمّ أُنزل نجوماً، ورواه بطرق أُخري متعدّدة «1».

ومقتضي هذه الروايات، أنّ الذي نزل به جبرئيل علي النبيّ من القرآن أنّما هو النزول الثاني، أي النزول نجوماً من السماء الدنيا من بيت العزّة إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، دون النزول الأوّل الذي هو جملة واحدة، ودون النزول المستمرّ في كلّ عام في ليلة القدر، ويقتضيه ظاهر آية سورة الشوري وسورة القدر، كما سيأتي بيانه مفصّلًا، وأنّ النازل بجملة القرآن وفي ليلة القدر من كلّ

عام إلي يوم القيامة هو روح القدس، والذي أُطلق عليه في القرآن «رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»، وجُعل في سورة القدر مقابل للملائكة «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «2».

ومن ذلك يُعلم الاختلاف النوعي في حقيقة التنزيلين، وأنّ النوعية الأُولي من النزول وهي نزول القرآن جملة- هو المستمرّ في ليلة القدر إلي يوم القيامة، وهو يرتبط بتأويل الكتاب، وتقدير كلّ شي ء يقع من المقادير في الخلق.

نزول القرآن ليلة القدر علي آل محمّد عوض غصب الخلافة: … ص: 304

18- وروي البيهقي في كتاب فضائل الأوقات بسند متّصل إلي يوسف بن مازن، قال: «قام رجل إلي الحسن بن عليّ رضي الله عنه فقال: يا مسوّد وجه المؤمنين. قال الحسن بن عليّ رضي الله عنه: لا تؤنّبني رحمك اللَّه؛ فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد رأي بني أُميّة يخطبون علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 305

منبره رجلًا فرجلًا فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» «1»

نهر في الجنّة، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «2»

تملكه بنو أُمية، فحسبنا ذلك … فإذا هو لا يزيد ولا ينقص» «3».

19- وروي ابن أبي الحديد، قال: «وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدّثين، أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أُخبر أنّ بني أُمية تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه صلي الله عليه و آله لهم. نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» «4»

، فإنّ المفسّرين قالوا: إنّه رأي بني أُمية ينزون علي منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الذي فسّر لهم الآية به، فساءه ذلك، ثمّ قال: الشجرة الملعونة بني أُمية وبني المغيرة. ونحوه

قوله صلي الله عليه و آله: إذا بلغ بنو العاص ثلاثون رجلًا اتّخذوا مال اللَّه دولًا وعباده خولًا. ونحوه قوله صلي الله عليه و آله في تفسير قوله تعالي: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «5»

قال: ألف شهر يملك بها بنو أُمية».

وورد عنه صلي الله عليه و آله في ذمّهم الكثير المشهور نحوه.. وروي المدائني عن دخول سفيان بن أبي ليلي النهدي، رواية عن الحسن بن عليّ عليه السلام في تفسير الآية، وهي التي قد تقدّم ذكرها «6».

20- وروي الطبري في سورة القدر بسنده المتّصل عن عيسي بن مازن، قال:

«قلت للحسن بن عليّ رضي الله عنه: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلي هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية بن أبي سفيان فقال: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أُري في منامه بني أُمية يعلون منبره خليفة خليفة فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللَّه: «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، و «إنّا أنْزَلْناهُ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 306

في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، يعني ملك بني أُمية». قال القاسم: حسبنا ملك بني أُمية فإذا هو ألف شهر».

21- وروي الترمذي في سننه، والحاكم بسند متّصل إلي الحسن بن عليّ عليه السلام:

«إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله أُري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ».. الحديث» «1».

ورواه السيوطي في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من رواية يوسف بن سعد، وأخرج الخطيب عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، عنه صلي الله عليه و آله: «أُريت بني أُمية يصعدون منبري فشقّ ذلك عليّ، فانزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ

الْقَدْرِ»».

أقول: ومقتضي هذه الروايات أنّ اللَّه تعالي قد عوّض النبيّ وأهل بيته عن غصب الخلافة الظاهرية بإعطائهم ليلة القدر، أن تكون معهم كما كانت مع الأنبياء السابقين؛ إذ مقتضي جواب الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام عن غصب معاوية الخلافة منه، هو أنّ اللَّه تعالي قد عوّض النبيّ وأهل بيته أصحاب الكساء والأئمّة الاثني عشر سلام اللَّه عليهم بنزول الروح عليهم والملائكة في ليلة القدر ينبّئونهم بكلّ أمر، وإلّا لما صحّ جواب الإمام الحسن بن علي عليه السلام في قبال اعتراض السائل، بل ولما كان تعويض للنبيّ صلي الله عليه و آله، فإنّ مساءة النبيّ من نزو بني أُمية علي خلافته وغصبهم لها ليس في زمانه، وإنّما بعد رحيله صلي الله عليه و آله حيث وقعت الفتنة بنصّ الآية الكريمة: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» «2»

، وبنصّ الروايات الواردة في ذيل الآية عن النبيّ من طريقهم فضلًا من طرقنا، فهذه الروايات المستفيضة عندهم وعندنا في ذيل الآية مع نفس

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 307

مضمون الآية هي أحد ملامح الأدلّة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام وغصب أهل السقيفة وبنو أُمية للخلافة.

كما أنّها دالّة علي أنّ ليلة القدر وما يتنزّل فيها والروح النازل، كلّ ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحقيقة إمامتهم التكوينية الإلهية.

وسيأتي لاحقاً في هذا الفصل والذي يُعدّ أيضاً ارتباط حقيقة ليلة القدر بحكومتهم السياسية الخفية في النظام الاجتماعي السياسي، ولكن بنمو تكويني منظومي.

وهذا النازل في ليلة القدر ليس وحي شريعة، وإنّما هو علم في الإدارة والتدبير والقيادة والإمامة الإلهية، ومحلّ تقدير وتدبير لكلّ شي ء في القضاء والقدر الإلهي إلي السنة المقبلة.

حقيقة القرآن هي الروح النازل ليلة القدر: … ص: 307

22- وروي السيوطي في ذيل سورة النحل قوله

تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «1»

، قال: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالي:

«يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ»، قال: بالوحي.

23- وكذلك روي السيوطي في الموضع السابق عن جملة من المصادر، عن قتادة في قوله: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ»، قال: بالوحي والرحمة. وأخرج عن جملة، عن الضحّاك في قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ»، قال: القرآن «2».

وروي الطبري بسنده عن قتادة مثله.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 308

24- وروي السيوطي في الدرّ المنثور في سورة الشوري في ذيل قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «1»

، قال: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس (رضي اللَّه عنهما) في قوله: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»، قال: القرآن «2».

حقيقة الوحي هو نزول الروح كما في ليلة القدر ومستمرّ إلي يوم القيامة: … ص: 308

أقول: ويُستفاد من مجموع هذه الطائفة من الروايات: أنّ حقيقة القرآن هي الروح الذي يتنزّل في كلّ ليلة قدر، وأنّ نزوله في كلّ ليلة قدر نزول للوحي الإلهي، بل إنّ الوحي ليس إلّانزول الروح والملائكة علي من يشاء من العباد المصطفون، من الأنبياء والأوصياء، ومن ثمّ عبّر في سورة الشوري في قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» عن إرسال الروح الأمري بأنّه وحيٌ، فالوحي هو إنزال الروح وإنزال الروح هو وحي، فتصريح القرآن الكريم في سورة القدر بتنزيل الروح كلّ عام، هو تصريح باستمرار الوحي بعد سيد الأنبياء، غاية الأمر الذي يتنزّل هو من غيب القرآن الذي قد ورّثه النبيّ صلي الله عليه و آله لأوصيائه.

عقيدة البداء وحقيقة ليلة القدر: … ص: 308

25- وروي الطبري في سورة الرعد في ذيل قوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

بسنده المتّصل عن مجاهد قول اللَّه: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 309

يَشَاءُ وَيُثْبِتُ»، قالت قريش حين أُنزل: «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»: ما نراك يا محمّد تملك من شي ء، ولقد فُرغ من الأمر، فأُنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم أنّا إن شئنا أحدثنا من أمرنا ما شئنا، ونُحدث في كلّ رمضان فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم وما نقسّم لهم «1».

أقول: وفي هذه الرواية والروايات التي رويت في ذيل الآية والتي رواها أهل سنّة جماعة الخلافة والسلطان، دالّة علي عقيدة البداء التي هي نوع من النسخ التكويني الواردة في روايات أهل البيت، كما تدلّ هذه الروايات علي أنّ ما في أمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته العلوية الغيبية، متضمّن لكلّ قضاء وقدر، وليس هو

مجرّد ظاهر التنزيل، وهذه الحقيقة للقرآن لا ينالها إلّاالمعصوم الذي ينزّل عليه الروح في ليلة القدر، ولا يطمع في نيلها غير المعصوم؛ إذ ليس الأمر بالأماني والتمنّي، هيهات. وما سيأتي ومضي من رواياتهم لا يخفي تضمّنه لمعني النسخ والبداء.

26- وروي الطبري في سورة الدخان، بسنده عن ابن زيد في قوله عزّوجلّ:

«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «2»

، قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله علي الأنبياء في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر «3».

أقول: هذه الرواية دالّة علي أنّ الذي يتنزّل من أُمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته الغيبية العلوية، والذي يتنزّل منه، ليس ظاهر التنزيل، بل كلّ المقادير وقضاء الحوادث الكونية وأنّ ذلك التنزّل مستمرّ ليس في خصوص ليلة القدر،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 310

بل علي مرّ الليالي والأيام والآناء واللحظات، وأنّه لا زال يتنزّل بعد ذهاب الأنبياء، يتنزّل علي الأوصياء خلفاء النبيّ- الاثني عشر من قريش سلام اللَّه عليهم، وهذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام.

27- وروي الطبري في سورة الرعد، بسند متّصل عن قتادة قوله تعالي:

«وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: جملة الكتاب وأصله.

28- وروي الطبري في الموضع المذكور بسنده إلي الضحّاك في قوله:

«وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: كتاب عند ربّ العالمين.

29- وروي الطبري عن الضحّاك أيضاً في الموضع المزبور «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني ما بذلك ما ينسخ منه وما يثبت.

وروي نظيره بسند متّصل عن ابن عبّاس «كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا» «1».

أقول: مقتضي التعبير بلفظ جملة الكتاب عنده تعالي، أنّ ظاهر التنزيل ليس كلّ درجات حقيقة الكتاب، وأنّ جملته مجموع ما فيه من التأويل والحقائق

وكلّ قضاء وقدر، وكلّ ما كان ويكون فهو في أُمّ الكتاب، وهو الذي ينزل منه كلّ عام في ليلة القدر بتوسّط الروح، وأنّه لازال ينزل من باطن الكتاب وتأويل كلّ عام في ليلة القدر إلي يوم القيامة، بل في كلّ ليلة، وأنّه كما مرّ في بعض الروايات المتقدّمة.

وكلّ هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت كما ستأتي الإشارة إليه، فللكتاب جملة يستطرّ فيها كلّ شي ء، ما من غائبة في السماء والأرض، ولا رطب ولا يابس إلّافي كتاب مبين، فظاهر التنزيل الذي بين الدفّتين وهو المصحف الشريف، لا يحيط ولا يحتوي بما في أُمّ الكتاب، وإنّما هو ظهر يوقف عليه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 311

للوصول إلي البطون والتأويلات والحقائق، بهداية الراسخين في العلم الذين هم أهل آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما دلّت علي ذلك الآيات الكريمة في السور المختلفة.

بل إنّ من تصريح الآيات بأنّ أهل البيت المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون، يُعلم بالتلازم أنّ أهل البيت هم الذين يتنزّل عليهم روح القدس في ليلة القدر، بما في أُمّ الكتاب من القضاء والقدر لكلّ سنة، كما أنّ من التلازم في حديث الثقلين من العترة والكتاب وعدم افتراقهما، يُعلم تلازمهما في كلّ ما ينزل من الكتاب في كلّ سنة.

كما أنّ من التعبير بأنّ عنده أُمّ الكتاب الذي هو جملة مجموعه، وأصله وحقيقته التعبير بأنّ هذه الجملة والحقيقة عند اللَّه للدلالة علي القرب المعنوي بحسب نشأة عوالم الخلقة، فمكانته الوجودية غيبية مكنونة في لوح محفوظ ذات مجد كوني وتكويني، وهي الروح الأعظم كما سيأتي في الروايات.

30- وروي بسنده عن ابن عبّاس أنّه سأل كعب عن أُمّ الكتاب، قال: علم اللَّه ما هو خالق ما خلقه عاملون، فقال

لعلمه: كن كتاباً فكان كتاباً.. وقال الطبري بعد ذلك: وأولي الأقوال بذلك بالصواب قول من قال وعنده أصل الكتاب وجملته؛ وذلك أنّه تعالي ذِكره أخبر أنّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقّب بذلك بقوله: «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، فكان بيّناً أنّ معناه عنده أصل المثبت منه والمحو، وجملته في كتاب لديه.

31- وروي الطبري في سورة الدخان بسند متّصل عن ابن زيد في قوله عزّوجلّ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «1»

، قال: تلك الليلة ليلة القدر،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 312

وأنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله علي الأنبياء في الليالي والأيام وفي غير ليلة القدر.

32- وروي الطبري في ذيل سورة الدخان بسنده عن عمر مولي غفرة، قال:

يقال: ينسخ لملك الموت من يموت في ليلة القدر إلي مثلها؛ وذلك لأنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»، وقال: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «1»

، قال: فتجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغرس واسمه في الأموات.

أقول: ومقتضي هاتين الروايتين أنّ القرآن النازل في ليلة القدر- وهي الليلة المباركة- يُسمّي بحسب حقيقته الغيبية بعدّة أسماء، وهي بحسب مراتبه الغيبية:

الكتاب المبين، وأُمّ الكتاب، والكتاب المكنون. كما أنّ مقتضي الرواية الأخيرة هيمنة القرآن والروح النازل في ليلة القدر علي وظائف ملك الموت، وأنّه تابع منقاد للروح، وكذلك ميكائيل الموكّل بالأرزاق، وإسرافيل الموكّل بالأحياء، وجبرئيل الموكّل بالعلم والبطش.

وقال الطبري في ذيل سورة الدخان: وقوله: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

، يقول تعالي ذكره: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» رسولنا محمّد صلي الله عليه و آله إلي عبادنا «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «3».

وقال: وقوله: «أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «4»

، يقول تعالي ذكره: في

هذه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 313

الليلة المباركة يُفرق كلّ أمر حكيم أمراً من عندنا.

أقول: إنّ الإرسال في الآيات الكريمة في سورة الدخان مرتبط بإنزال الروح ليلة القدر بتقادير الحوادث كلّها، وهذا الإرسال في كلّ ليلة قدر من كلّ عام إلي يوم القيامة وإن لم يكن إرسال نبوّة ورسالة، بل هو تزويد لخليفة اللَّه في الأرض، واطّلاعه بإرادات اللَّه ومشيئاته للقيام بالمسؤوليات الإلهية الخطيرة التي تعهد إليه من الباري تعالي، والتي تتوقّف علي هذا الكمّ الهائل من العلم بالمقدّرات الإلهية المستقبلية.

دوام ليلة القدر من الروايات الحاثّة علي فضيلتها في الصحاح: … ص: 313

قد عقد البخاري ومسلم كلّ منهما باباً بعد كتاب الصوم أُدرج فيه خمسة أبواب:

الأوّل: في فضل ليلة القدر.

الثاني: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر.

الثالث: تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر. وأورد فيها البخاري روايات عن النبيّ صلي الله عليه و آله كلّها آمره بالتماس وتحرّي ليلة القدر، أي طلبها كلّ عام، ممّا يقضي بدوام ليلة القدر إلي يوم القيامة.

وممّا أورده في تلك الروايات بسنده عن ابن عمر أنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلي الله عليه و آله: أري رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر.

أقول: مقتضي هذه الرواية أنّ ليلة القدر حقيقة قد يري بعضُ آياتها، وبعض لمعانها وأنوارها بعضُ البشر. ومثله في صحيح مسلم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 315

شهر رمضان إعداد لليلة القدر هي باب عظيم لمعرفة الإمام عليه السلام … ص: 315

اشارة

فكما أن هناك صلة بين شهر رمضان وليلة القدر، فهناك صلة وثيقة بينهما وبين حقيقة الإمام عليه السلام، وكما أنّ شهر رجب وشهر شعبان يوطّئان ويمهّدان لشهر رمضان، فكذلك شهر رمضان يوطئ لليلة القدر، وليلة القدر بدورها توطئ لنزول الروح والملائكة الذي هو نزول لحقيقة القرآن، والروح أنّما ينزل بكلّ أمر علي من يصطفيه اللَّه من عباده في كلّ عام وهو الإمام، وتعظيم شهر رمضان أنّما هو لما فيه من ليلة القدر، وعظمة ليلة القدر أنّما هي لما فيها من نزول الروح ونزول القرآن، وهو أنما ينزل علي من يشاء من عباد اللَّه، مَنْ اصطُفي لذلك.

فشهر رمضان بيئة نورية لليلة القدر، وليلة القدر بيئة أشدّ نوراً لنزول الروح، ونزول الروح أشدّ نوراً بأضعاف عند من يتنزّل عليه الروح.

فالانشداد إلي شهر رمضان انشداد إلي ليلة القدر،

والانشداد إلي ليلة القدر انشداد إلي الإمام الذي يتنزّل عليه الروح. وإدراك ليلة القدر هو بمعرفة حقيقة القدر وهي نزول الروح علي من يشاء اللَّه من عباده المصطفين بكلّ أمر يقدّره من حوادث السنةّ، فمعرفة ليلة القدر معرفة لحقيقة النبوّة والإمامة وإدراكها هو بهذه المعرفة.

روي الكليني عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «.. فضل إيمان المؤمن بجملة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» وتفسيرها علي من ليس مثله في الإيمان بها، كفضل الإنسان علي البهائم،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 316

وإنّ اللَّه عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنّه لا يتوب منهم- ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين»، الحديث «1».

بيئة ليلة القدر شهر رمضان: … ص: 316

إنّ الناظر في خصائص شهر رمضان وما أحيط به من هالة معنوية وزخم روحي كبير وتركيز مكثّف هو تمهيد لليلة القدر، وإنّ ذلك لا يقتصر علي شهر رمضان بل يبدأ من شهر رجب ومن بعده شهر شعبان إلي أن يصل شهر رمضان، شهر اللَّه الذي عُظّم من اللَّه عزّوجلّ، حيث نُسب إليه تعالي وجُعلت فيه ليلة القدر.

وكذلك كونه شهر ضيافة اللَّه عزّوجلّ وأنّه أُنزل فيه القرآن العظيم، حيث قال تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «2».

وكلّ هذا التعظيم حلقات مترابطة لتصل إلي ما في شهر رمضان من أوج العظمة وهي ليلة القدر، حيث إنّ فضائل شهر رمضان في جانب وفضائل ليلة القدر في جانب آخر، فإنّ كلّ ما حفّ به شهر رجب الأصبّ الذي تصبّ فيه الرحمة صبّاً، وشهر شعبان الذي تتشعّب فيه طرق الخير، كلّ ذلك قد تضاعف أضعافاً في خصائص شهر رمضان، وتضاعف ما في شهر رمضان من خصائص إلي ثلاثين ألف ضعف في ليلة

القدر.

فليلة القدر هي أوج عظمة الضيافة الإلهية والحفاوة الربّانية، فأوج نصيب حظّ العباد إدراك ليلة القدر، إلّاأنّ هذا الإدراك للّيلة العظيمة ليس بمجرّد الكمّ الكبير من العبادات والأدعية والابتهال والتنفّل؛ فإنّ كلّ ذلك إعداد ضروري لما وراءه من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 317

إدراك آخر لحقيقة ليلة القدر وهو معرفة هذه الليلة، ومعرفتها هو بمعرفة حقيقتها المتّصلة بحقيقة الإمام والإمامة.

فمن ثمّ كان شهر رمضان شهر اللَّه الأغرّ وشهر معرفة الإمام خليفة اللَّه في أرضه، فكما أنّ شهر رمضان نفخ بالحياة للدين القويم، فإنّ ليلة القدر هي القلب النابض في هذا الشهر؛ لما لها من صلة بالإمام وتنزّل الروح الأعظم عليه.

فشهر رمضان بوابة لمعرفة ليلة القدر، وليلة القدر بوابة لمعرفة الإمام والارتباط به والانشداد إليه، فجُعل شهر رمضان سيد الشهور كما جاء في روايات الفريقين، وجُعلت ليلة القدر قلب شهر رمضان كما ورد في الحديث.

وقد جُعل شهر رمضان أعظم حرمة من الأشهر الحُرُم الأربعة، وهذه العظمة لشهر رمضان أنّما هو لما فيه من تلك الليلة العظيمة، فهو كالجسم وهي كالروح له، مع أنّ شهر رمضان هو كالروح للأشهر الحُرُم الأربعة التي منها شهر رجب.

وكلّ ذلك يرسم مدي العظمة التي تحتلّها ليلة القدر، وقد بيّن الغاية من الصيام في شهر رمضان في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «1».

والصيام علي درجات كما كان في الشرائع السابقة، فلا يقتصر علي الإمساك البدني بل يرتبط بالدرجات الاعتقادية كالإمساك عن الكذب علي اللَّه ورسوله، فصيام علي مستوي الجانب البدني وصيام الجوانح وصيام علي مستوي الحالات النفسية والخواطر، وهناك صيام علي مستوي الحالات القلبية وحالاته وخواطره.

وأعظم المراتب علي مستوي الاعتقاد، كما يشير

إليه قول الإمام الصادق عليه السلام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 318

في رواية جراح المدائني «1»، فبيّن عليه السلام صوم الصمت كما هو صوم زكريا ومريم، وعُرف بصوم الصمت الداخل، أي الإمساك بحسب كلّ مراتب النفس الباطنية.

فشهر رمضان بيئة عظيمة لليلة القدر، وقد وصف هذا الشهر كما في خطبة النبيّ صلي الله عليه و آله التي رواها الصدوق بسند معتبر عن الرضا عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«شهر اللَّه ذي البركة والرحمة والمغفرة، شهر، هو عند اللَّه أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم به إلي ضيافة اللَّه وجُعلتم به من أهل كرامة اللَّه، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب.. هذا الشهر العظيم.. ومن تلي فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم».

فهذا الشهر قد عظّمه الباري وكرّمه وشرّفه وفضّله علي الشهور، وافترض صيامه علي العباد، وأنزل فيه القرآن هدي للناس وبيّنات من الهدي والفرقان، وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر.

أوصاف ليلة القدر: … ص: 318

إلّا أنّ كلّ هذه الأوصاف لشهر رمضان بالقياس إلي أوصاف ليلة القدر منه هي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 319

دون الأوصاف التي وصفت بها تلك الليلة؛ فإنّ تلك الأوصاف قد ذكرت لليلة القدر بنحو مضاعف أضعافاً، وكأنّ الشهر توطئة وإعداد للولوج في تلك الليلة، حتّي أنّ أغلب أدعية ذلك الشهر المأثورة تركّز علي الدعاء والطلب لإدراك تلك الليلة، ولطلب حسن ما يقضي

ويقدّر من الأمر المحتوم وما يفرق من الأمر الحكيم في تلك الليلة من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل.

ومن تلك الأوصاف، أنّها أوّل السنة المعنوية بلحاظ لوح القضاء والقدر. فقد روي الكُليني عن رفاعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ليلة القدر هي أوّل السنة وهي آخرها» «1».

وروي الشيخ في التهذيب بعدّة أسانيد إلي مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا سلم شهر رمضان سلمت السنة، وقال: رأس السنة شهر رمضان» «2».

وروي الكُليني بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السماوات والأرض، فغرّة الشهور شهر اللَّه عزّوجلّ وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر» «3».

وروي ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلي علي بن فضّال من كتاب الصيام، بإسناده إلي ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «شهر رمضان رأس السنة» «4».

وقال أيضاً في كتاب إقبال الأعمال بعد ذكر جملة للروايات المتضمّنة لهذا المضمون: (واعلم أنّني وجدت الروايات مختلفات، هل أنّ أوّل السنة محرّم أو شهر رمضان؟ لكنّني رأيت من عمل من أدركته من علماء أصحابنا المعتبرين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 320

وكثيراً من تصانيف علمائهم الماضين، أنّ أوّل السنة شهر رمضان علي التعيين، ولعلّ شهر الصيام أوّل العام في عبادات الإسلام، والمحرّم أوّل السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام؛ لأنّه جلّ جلاله عظّم شهر رمضان، فقال جلّ جلاله:

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1»

فلسان حال هذا التعظيم كالشاهد لشهر رمضان بالتقديم؛ ولأنّه لم يجر لشهر من شهور السنة ذكر باسمه في القرآن وتعظيم أمره إلّالهذا الشهر شهر الصيام، وهذا

الاختصاص بذكره كأنه ينبّه- واللَّه أعلم- علي تقديم أمره؛ ولأنّه إذا كان أوّل السنة شهر الصيام وفيه ما قد اختصّ به من العبادات التي ليست في غيره من الشهور والأيام، فكأنّ الإنسان قد استقبل أوّل السنة؛ ولأنّ فيه ليلة القدر التي يُكتب فيها مقدار الآجال وإطلاق الآمال، وذلك منبّه علي أنّ شهر الصيام أوّل السنة) «2».

قال المجلسي قدس سره: قال الوالد العلّامة: (الظاهر أنّ الأوّلية باعتبار التقدير، أي أوّل السنة التي تقدّر فيها الأُمور لليلة القدر، والآخرية باعتبار المجاورة، فإنّ ما قدّر في السنة الماضية انتهي إليها، كما ورد أنّ أوّل السنة التي يحلّ فيها الأكل والشرب يوم الفطر، أو أنّ عملها يُكتب في آخر السنة الأُولي وأوّل السنة الثانية كصلاة الصبح في أوّل الوقت، أو يكون أوّل السنة باعتبار تقدير ما يكون في السنة الآتية وآخر سنة المقدّر فيها الأُمور) «3».

ومنها: ما رواه الطبرسي في مجمع البيان، والاستربادي في تأويل الآيات. عن ابن عبّاس عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «إذا كانت ليلة القدر تنزّل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهي وفيهم جبرئيل، ومعهم ألوية فينصب لواء منها علي قبري ولواء منها

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 321

في المسجد الحرام ولواء منها علي طور سيناء، ولا يدع مؤمن ولا مؤمنة إلّاويسلّم عليه، إلّامدمن خمر وآكل لحم خنزير والمتضمّخ بالزعفران» «1»

. ونظيره ما روي في كتاب جعفر بن محمد الدورستري.

ومنها: يفرق فيها كلّ أمر حكيم، وأنّها مباركة ببركة خاصّة مضاعفة مُمتازة عن بركة شهر رمضان كلّه، حيث قال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «3».

ومنها: أنّها موصوفة بالسلامة، حيث قال تعالي: «سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «4»

، مع أنّ شهر رمضان كما تقدّم- تُصفد فيه الشياطين وتُفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران، إلّاأنّ في ليلة القدر يزداد هذا الفتح لأبواب والغلق لأبواب أُخري.

ومنها: يُضاعف العمل ثلاثين ألف ضعف، كما قال تعالي: «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ». إلي غير ذلك من الخصائص التي امتازت بها ليلة القدر، إلّاأنّ كلّ ذلك هو تمهيد وتوطئة وإعداد لأكبر امتياز وخاصّية امتازت بها ليلة القدر، وهو نزول القرآن والروح والملائكة فيها في كلّ عام.

وروي في مجمع البيان عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّي يضي ء فجرها، ولا يستطيع فيها أن ينال أحداً بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 322

ليلة القدر بيئة لنزول القرآن كلّ عام: … ص: 322

فكلّ الإعداد السابق للمسلم والمؤمن في بيئة شهر رمضان المباركة ومحيط أجواء النور في ليلة القدر وعبادة المؤمن وأعماله في هذه الليلة المتضاعفة أضعافاً، تبلغ أجر العمل في هذه الليلة من كلّ عام ما يزيد علي عمر الإنسان لو قدّر تطاوله إلي ما يزيد علي ثلاث وثمانين عاماً.

كلّ هذا الإعداد والرقي الروحي للمؤمن يُكتب له لأجل أن يدرك ليلة القدر، وإدراكها بدراية (ما ليلة القدر) حيث قال تعالي: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «1»

وهو تحضيض وترغيب وحثّ علي دراية ومعرفة ليلة القدر؛ ف «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» أي ما أعلمك بليلة القدر، فإدراكها بدرايتها.

وليست درايتها ومعرفتها هي بمعرفة وقتها الزماني ليتخيّل أنّ إدراكها هو بتحديد أي ليلة هي من الليالي لتوقع

الأعمال العبادية فيها، بل هذا أدني درجات الإدراك، ومعدّ إلي درجات أُخري لإدراكها بدرايتها ومعرفة الإرهاصات التي تقع فيها، ومن ثمّ قال تعالي عقيب قوله «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» بقوله تعالي بخيرّيتها من ألف شهر، وأوج معرفتها بتنزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر، فالعمدة في درك ودراية هذه الليلة بمعرفة نزول الروح والملائكة فيها من كلّ عام.

ويواجه الباحث هنا عدّة تساؤلات:

الأوّل: ما هي العلاقة بين نزول القرآن في ليلة القدر ونزول الروح؟ وما هذه الصلة التي يجدها ملحوظة في سورة القدر؟ حيث إنّ الضمير في «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» يعود إلي القرآن، كما أنّ الضمير في سورة الدخان «حم* وَالْكِتَابِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 323

الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» يعود إلي الكتاب المبين، وقوله تعالي «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1».

الثاني: هل النزول للقرآن يستمرّ باستمرار نزول الروح في ليلة القدر من كلّ عام؟

الثالث: ما هي الصلة بين الكتاب المبين والقرآن الذي أُنزل في الليلة المباركة ليلة القدر؟ كما في سورة الدخان التي تقدّمت، وفي سورة الزخرف من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «2».

وقد وصفت الآيات المحكمات بأنّهن أُمّ الكتاب في سورة آل عمران في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ» «3».

الرابع: ما هي الصلة بين نزول القرآن ونزول الروح والملائكة، وتقدير كلّ أمر من الحوادث والآجال والأرزاق، وكلّ صغيرة وكبيرة تقع علي كلّ شخص وكلّ مجتمع بل كلّ نبات وحيوان وجماد وكون ومكان ودول وجماعات وأحزاب ومنظمات إقليمية وقطرية ومذاهب وطوائف وحرب وسلم وغلاء

ورخص وأمن وخوف ومواليد وأموات؟

وتدبير كلّ شي ء من عظائم الأُمور وصغائرها، وأحلاف سياسية وعسكرية وأمنية، ومخطّطات ومشاريع، وظواهر اجتماعية واقتصادية، وظواهر فكرية اعتقادية، وانتشار الأمراض والأوبئة المهدّدة للصحّة العالمية البشرية، والسياسات المتبنّاة في كلّ إقليم، وتوازن القوي الاجتماعية والإقليمية والدولية،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 324

وسقوط دول وبروز أُخري، وتبدّل أعراف ونشوء أُخري قانونية واجتماعية وأخلاقية، وما سيدور في الدوائر الأمنية والسياسية والمخابراتية الدولية والقطرية من خلف الكواليس؟ حيث قال تعالي في سورة الدخان: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1»

، وقال في سورة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

، وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

، وقوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» «4»

، وقوله تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً» «5».

وروي الكُليني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو يقرأ إنّا أنزلناه بتخشّع وبكاء، فيقولان: ما أشدّ رقّتك لهذه السورة؟ فيقول رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: لِما رأت عيني ووعي قلبي، ولِما يري قلبُ هذا من بعدي. فيقولان فما الذي رأيت وما الذي يري. قال: فيكتب صلي الله عليه و آله لهما في التراب «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ». قال: ثمّ يقول: هل بقي شي ء بعد قوله عزّوجلّ: (كلّ أمر) فيقولان: لا..» الحديث «6».

وروي الكُليني صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما، قال: «.. وسُئل عن ليلة القدر فقال: تنزّل فيها الملائكة والكتبة إلي السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون في أمر السنة وما يصيب العباد،

وأمره عنده موقوف له وفيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء» «7».

وروي في صحيح الفضلاء في حديث، في قوله عزّوجلّ «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 325

حَكِيمٍ» قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي ء يكون في تلك السنة إلي مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم وللَّه عزّوجلّ فيه المشيّة «1».

الخامس: من هو الذي ينزل عليه الروح والملائكة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله في هذه الأُمّة إلي يوم القيامة؟ حيث إنّ نزول الملائكة والروح بحسب سورة القدر وسورة الدخان كان قطعاً علي النبيّ صلي الله عليه و آله، حيث إنّ نزول الروح والملائكة كان إنزالًا للقرآن علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فلم يكن نزولًا بلا مقصد ينتهي إليه النزول، وكذا قوله في سورة الدخان: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

فالآية تصرّح أنّ مورد النزول هو من يشاء اللَّه من عباده، أي يصطفيهم لذلك ليكونوا منذرين، وكذلك سورة غافر في قوله تعالي:

«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3».

السادس: هل هذا المتنزّل من الكمّ الهائل من المعلومات عن كلّ ما يحدث في الأرض والذي ينزل علي من اصطفاه اللَّه لذلك وشاء له ذلك بنصّ سورة النحل وغافر والتي هي نظم ومنظومات معلوماتية بالغة الخطورة عن المستقبل في كلّ الحقول ونظم الاجتماع السياسي والاقتصادي والأمني، فهل نزولها للترف العلمي ومجرّد اطّلاع من يشاء اللَّه من عباده، أم أنّ ذلك ليقوم بمهام وأدوار خطيرة في البشرية في كافّة أرجاء الأرض؟

وعلي كلّ تقدير،

فإنّ ظاهر سورة القدر «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» هو نزول القرآن في ليلة القدر، كما هو ظاهر قوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 326

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1»

، فإنّ مفادهما كما اعترف بذلك جملة كثيرة من المفسّرين من الفريقين، هو نزول القرآن جملة واحدة في شهر رمضان، وظاهر الضمير في سورة القدر عائد إلي القرآن، كما أنّ لفظ الآية في سورة البقرة كذلك «الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»، حيث إنّ ظاهر (ال) في المجموع، وكذلك هو مفاد قوله تعالي في سورة الدخان: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»، فإنّ الضمير عائد إلي الكتاب المبين برمّته. هذا مضافاً إلي أنّ بعثة الرسالة النبويّة هي في شهر رجب وهو مبدأ نزول القرآن نجوماً وأنّ أوّل سورة نزلت هي سورة العلق وغيرها من السور، فمن ثمّ حُمل ذلك علي استظهار أنّ للقرآن نزولان:

النزول الأوّل: بجملة القرآن.

والنزول الثاني: هو نزول مفصّل تدريجي نجومي بحسب الوقائع والأحداث.

وقد تفطّن إلي ذلك في دلالة الآيات ببركة ما ورد من روايات أهل البيت عليهم السلام وانتشر من حديثهم، فتبنّاها جملة من طبقات التابعين أخذاً عنهم وإن لم يسندوها إليهم، فقد ورد عنهم عليهم السلام كما في صحيحة حمران أنّه سأل أباجعفر عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»؟ قال: «نعم، ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّافي ليلة القدر..» «2».

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره في معني «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: فهو القرآن نزل إلي البيت المعمور في ليلة القدر جملة واحدة، وعلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

في طول ثلاث وعشرين سنة «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ». ومعني ليلة القدر أنّ اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 327

تعالي يقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث من موت أو حياة أو خصب أو جدب أو خير أو شرّ، كما قال اللَّه تعالي: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «1»

إلي سنة، قوله: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» قال: تنزّل الملائكة وروح القدس علي إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأُمور) «2».

وروي الكُليني بسنده عن الحسن بن عبّاس بن جريش، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: «قال اللَّه عزّوجلّ في ليلة القدر: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول:

ينزل فيها كلّ أمر حكيم، والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شي ء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللَّه عزّوجلّ» «3»

. الحديث.

وروي الكُليني بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «نزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة. ثمّ قال: قال النبيّ عليه السلام أُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان» «4».

وروي الكُليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «نزلت التوراة في ستّ مضت في شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور ثماني عشرة من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر» «5».

مكان نزول القرآن: … ص: 327

ومن ثمّ كان للقرآن نزولان، وكان ما يتلقّاه النبيّ صلي الله عليه و آله في النزول الأوّل هو حقيقة القرآن التكوينية، وفي النزول الثاني هو معاني القرآن وألفاظه. فالنزول الأوّل: هو نزول جملة القرآن وحقيقته التي في نشأة الملكوت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 328

التي هي الكتاب المبين، وقد أطلق عليها

الروح في القرآن الكريم، أي أنّه وجود حيّ شاعر عاقل أعظم خلقاً من الملائكة، كما أشارت إليه الآيات والروايات.

والنزول الثاني: هو نزول معاني وألفاظ القرآن، وهو نزول القرآن نجوماً علي النبيّ صلي الله عليه و آله، والذي سُمّي القرآن فرقاناً بلحاظه.

وقد ذهب إلي تنوّع النزول أكثر المفسّرين والمحدّثين، ويشير إلي النمط الأوّل من النزول قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ» «1»

، وقوله تعالي: «نَزَلَ بِهِ أَلرُّوحُ أَلْأَمِينُ* عَلَي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ أَلْمُنْذِرِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «4»

، وقوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» «5»

. ومن ثمّ اختلف توقيته، توقيت النزول الجملي للقرآن عن بدء البعثة في رجب التي هي مبدأ لأوّل ما نزل بنحو نجومي متفرّق فرقاني، أو الذي هو من النمط الثاني.

ويشير أيضاً إلي: النمط الأوّل من النزول جملة من الروايات:

منها: ما رواه العياشي عن إبراهيم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «سألته عن قوله تبارك وتعالي: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» «6»

، كيف أُنزل فيه القرآن وإنّما أُنزل القرآن في عشرين سنة من أوّله إلي آخره، فقال عليه السلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثمّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة» «7».

وفي اعتقادات الصدوق، قال في نزول القرآن: اعتقادنا في ذلك أنّ القرآن نزل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 329

في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلي البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، وأنّ اللَّه تبارك وتعالي أعطي نبيّه العلم

جملة واحدة، ثمّ قال له: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «1»

وقال عزّوجلّ: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2». «3»

وما ذكره مضمون جملة من الأخبار والروايات، وفي بعض الزيارات تضمّن الخطاب «أيها البيت المعمور». «4»

وفي تفسير القمّي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» يعني القرآن، «فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» وهي ليلة القدر أنزل اللَّه القرآن فيها إلي البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في طول عشرين سنة.. الحديث «5». وبنفس هذه الرواية والألفاظ رواها عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير سورة القدر.

في دلائل الإمامة للطبري بسنده إلي الإمام الصادق عليه السلام في حديث أنّه قال عليه السلام:

«ونحن البيت المعمور الذي من دخله كان آمناً» «6».

وروي الصدوق في الأمالي صحيحة حفص، قال: قلت للصادق عليه السلام:

«أخبرني عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» كيف أُنزل القرآن في شهر رمضان وإنّما أُنزل القرأن في مدّة عشرين سنة أوّله وآخره؟ فقال عليه السلام:

أُنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثم أُنزل من البيت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 330

المعمور في مدّة عشرين سنة»، وروي مثله في كتاب فضائل الأشهر الثلاثة «1».

وفي دلائل الإمامة للطبري بسنده عن الصادق عليه السلام في حديث، قلت: «والبيت المعمور أهو رسول اللَّه؟ قال: نعم، المملي رسول اللَّه والكاتب عليّ» «2».

وغيرها من الآيات والروايات التي تشير إلي النمط الأوّل من النزول، الذي هو عبارة عن نزول حقيقة القرآن الملكوتية لا المعاني والألفاظ، والتي تقدم أنّها روح القدس، وهي خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل.

الروح النازل في ليلة القدر هو القرآن: … ص: 330

وفي جملة من الروايات

المتضمّنة لنزول القرآن في ليلة القدر الظاهر منها أنّ القرآن النازل في ليلة القدر هو الروح الأعظم الذي ينزل في ليلة القدر ويُنزّل به الملائكة.

فقد روي في الكافي والفقيه بإسنادهما عن حمران أنّه سأل أباجعفر عليه السلام عن قول اللَّه تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»؟ قال: «هي ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، ولم ينزّل القرآن إلّافي ليلة القدر، قال تعالي: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «3»

..» الحديث «4».

وبإسنادهما عن يعقوب قال: «سمعت رجلًا يسأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ عام؟ فقال أبا عبد اللَّه عليه السلام: لو رُفعت ليلة القدر لرُفع القرآن» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 331

وبهذا المضمون جملة مستفيضة من الروايات في ذيل سورة القدر وسورة الدخان، ومقتضاها: أنّ قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا» عطف بيان أو بدل عن الضمير في قوله تعالي «أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، أو أنّ الفعل (تنزّل) الملائكة والروح بدل عن فعل (أنزلناه)، والنتيجة متّحدة مع الاحتمال السابق.

ثمّ إنّ تفسير البيت المعمور بقلب النبيّ صلي الله عليه و آله كما أشارت إليه الروايات السابقة- لا ينافي تفسير البيت المعمور في جملة أُخري من الروايات بالبيت الظراح المبني في السماء الرابعة التي تطوف به الملائكة كلّ يوم، فإنّه من تعدّد معاني التأويل، وقد اطلق البيت في التعبير القرآني بهذا المعني، كما في قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ» «1»

، فرجال عطف بدل علي بيوت.

أمّا النمط الثاني من النزول وهو النزول التدريجي والنجومي أي نزول المعاني

والألفاظ، فيشير إليه جملة من الآيات والروايات، كما في قوله تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «3»

، وكذا الآيات التي تشير إلي حدث زماني بخصوصه، نظير قوله تعالي: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» «4»

، ومثلها قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا» «5»

، وغيرها من الآيات والسور النازلة بحسب أسباب النزول الحادثة حالًا بحال، فضلًا عن تدريجية نزول الآيات والسوركما في أوّل ما نزل من السور، كما في قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 332

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» «1»

، وغيرها من السور النازلة بحسب سنوات البعثة وسنوات الهجرة الذي عُرف بآخر السور نزولًا.

وبعبارة أُخري: أنّ ظاهر قوله تعالي «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «2»

، وقوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «4»

، هو نزول القرآن جملة واحدة، أي نزول جملي لحقيقة واحدة غير مفصّل، ثمّ فُصّل تنزيله بحسب موارد نزول السور والآيات المختلفة، ولذلك كان نزول القرآن بنحو مفصّل في بداية البعثة النبويّة الشريفة في آخر شهر رجب بقوله تعالي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..»، وكذا بقية السور الأوائل نزولًا، وليس المراد من نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان هو ابتداء نزوله.

مما يشير إلي وجود نمطين من النزول للقرآن الكريم: نزول جملي لحقيقة واحدة، ونزول مفصّل، قال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «5»

وظاهر مفاد الآية يقتضي أنّ مرحلة جمع مفصّل القرآن وتفصيله غير مرحلة الوحي والقرآن جملة، فهو صلي الله عليه و آله كان عالماً بالقرآن إلّاأنّه نُهي عن الاستعجال به قبل تنزيل قرآنه ونزول الوحي به، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «6»

، حيث (يُقضي) إمّا بمعني يتمّ أو بمعني يصل، وعلي كلا التقديرين فظاهر الآية دالّ علي علمه بالقرآن قبل إنزاله بالوحي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 333

بنحو التفصيل نجوماً، أمّا علي كون (يُقضي) بمعني (يصل) فملائمته ظاهرة للمفاد المزبور، وأمّا علي كونها بمعني يتمّ فقيل إنّه بمعني قراءته للقرآن قبل أن ينتهي جبرئيل من الوحي بتحريك لسانه، ولكنّه خلاف الظاهر؛ حيث إنّه يستلزم الاستخدام في الضمير، ويكون المعني علي هذا التقدير لا تعجل ببعض القرآن من قبل أن يتمّ إليك وحي الباقي منه.

وحمل الكلام علي الاستخدام يتوقّف علي القرينة الخاصّة، بخلاف الحال ما لو جعلنا مرجع الضمير متّحد بلا استخدام، فإنّ تقدير المعني يكون حينئذٍ: لا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضي إليك وحيه مرّة أُخري، أي وحي الإنزال والتنزيل من النمط الثاني وهو نزول القرآن تفصيلًا ونجوماً، فيدلّ علي علمه صلي الله عليه و آله به من قبل أن يتمّ الوحي من النمط الثاني.

وممّا يدلّ علي تعدّد نزول القرآن أيضاً قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، فإنّ المطهّرون وهم النبيّ وأهل بيته عليهم السلام عالمون بالكتاب المكنون بمسّ وصول يختلف عن تنزيل القرآن المفصّل، فالكتاب المكنون قد تقدّم أنّه الوجود

المجموعي للقرآن بنحو الإحكام والوجود الجملي، وهو الحقيقة الواحدة وهي الروح الأمري الذي يتجدّد نزوله في كلّ ليلة قدر في كلّ عام، وتتنزّل الملائكة به وهو روح أعظم من جبرئيل وميكائيل.

وممّا يشير إلي اختلاف النزولين أيضاً قوله تعالي: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2»

، وقد ثبت في تفسير الآية بحسب نزولها المكّي وبحسب وحدة سياق السورة مع الآيات السابقة عليها وبحسب توسّم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 334

قريش في بني هاشم جملة من الصفات والحالات غير المعتادة لدي قدرات البشر وبحسب نصوص الفريقين وبحسب النصوص الواردة في ذيلها، أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

والآية مع كونها مكّية ولمّا يستتم نزول القرآن التفصيلي المكّي فضلًا عن المدني- تدلّ علي علم الوصيّ فضلًا عن علم النبيّ بالكتاب كلّه؛ إذ هذا التعبير يفترق عن قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» «1»

، بأنّ التعبير الأوّل يدلّ علي العلم المحيط بكلّ الكتاب، فالآية ظاهرة بوضوح في حصول العلم بجملة الكتاب لدي المطهّرين، وهم النبيّ ووصيه عليهم السلام منذ البداية، وذلك بتوسّط نزول حقيقة القرآن جملة في الوحي من النمط الأوّل.

وممّا يدلّ علي ذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2»

، فتدلّ الآية علي درايته صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه، مع أنّ سورة الشوري مكّية، وكذا قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ» «3»

، وقوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» «4»

، وجملة من الآيات التي تضمّنت إنزال الكتاب عليه

صلي الله عليه و آله بناءً علي ظهور (ال) في الاستغراق أو الجنسية لجملة الحقيقة بجملة الآيات السابقة الدالّة علي علمه صلي الله عليه و آله بجملة الكتاب المبين والمكنون وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، وكذلك الأئمّة من أهل بيته تلقّوا ذلك عنه، إلّاأنّه صلي الله عليه و آله كان مأموراً باتّباع ما ينزل عليه من الوحي التفصيلي والتنزيل النجومي فيتّبع قرآنه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 335

وأمّا اشتمال القرآن الكريم علي قوله تعالي: «الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا» «1»

، وقوله تعالي: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» «2»

، وقوله تعالي:

«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا» «3»

، وغيره كثير ممّا يشير إلي تدريجية نزول القرآن حسب سلسلة أحداث زمانية ومكانية طوال البعثة والرسالة الشريفة، فلا يتنافي مع نزول الكتاب جملةً علي الرسول صلي الله عليه و آله قبل ذلك.

اختلاف صفات القرآن في النزولين: … ص: 335

لأنّ الكتاب بعد تنزيله بالنمط التدريجي تطرأ عليه أوصاف أُخري أشار إليها القرآن الكريم، كقوله تعالي: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «4»

، وقوله تعالي: «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» «5»

، وقوله تعالي:

«وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ» «6»

، وقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» «7»

، وقوله تعالي: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» «8»

، وغيرها من الآيات التي تشير إلي اتّصاف القرآن بأوصاف طرأت عليه عند نزوله، كالتفصيل والعربية وكونه تصديق الذي بين يديه وتشابه بعض آياته والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والتنزيل والتأويل والجمع والتفريق، وغيرها من الأوصاف الطارئة،

فإنّها أوصاف له بعد نزوله نجوماً.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 336

وليست أوصافاً له بحسب موقعه في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ والكتاب المبين، وكذلك الحال بالنسبة إلي صورة الألفاظ وما يتبع ذلك من أوصاف، وهي العربية والخطابية والإنشاء والإخبار والبلاغة والفصاحة وغيرها، فهذه ليست أوصافاً له بحسب موقعه المكنون باللوح المحفوظ، وأنّما هي حادثة له بعد النزول، أمّا جملة معارفه وحقائقه وأحكامه فلا يطرأ عليها مثل تلك الأوصاف.

وبكلمة جامعة: إنّ القرآن بمجموع وجوداته اللفظية وتراكيب جمله والمعاني المدلول عليها في الظهور الأوّلي في ظاهر الكتاب هي من نزول القرآن من النمط الثاني؛ إذ النمط الأوّل كما تقدّم- هو من سنخ الحقائق التكوينية والوجودات العينية، وإن لم ينحصر النمط الأوّل بذلك بل يشمل ما يكون من سنخ معاني التأويل.

النمط الثالث للنزول: … ص: 336

وقد تُعدّ درجات بطون القرآن ومعانيه التأويلية من سنخ ونمط تنزّل ثالث سيأتي بسط الحديث عنه في مقالات لاحقة.

هذا مضافاً إلي متواتر الروايات المتضمّنة للإشارة إلي موارد النزول وتأليف آيات وسور القرآن بوجوده اللفظي. ثمّ إنّ المعاني المتنزّلة من حقيقة القرآن الكلّية وحقائقه الجملية ليست محيطة بها؛ فإنّ المعاني والمفاهيم مهما كانت في السعة والشمول ليست إلّالمعات يسيرة من أنواع تلك الحقائق، هذا فضلًا عن الألفاظ المشيرة إلي تلك المعاني التي هي تنزّل لفظي لها؛ فإنّ الألفاظ ليست إلّا علامات ودوالّ إشارية علي مجمل بحور المعاني، وليست بتلك التي تحيط بها، والنسبة بين الألفاظ والمعاني كالنسبة بين المعاني والحقائق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 337

فالألفاظ مفتاح وأبواب للمعاني، والمعاني لا تتناهي درجاتها وبطونها وهي بوابات لشعب الحقائق من دون أن تكتنه المعاني، فما يحمله صلي الله عليه و آله من حقائق وحقيقة القرآن لا يمكن أن تسعه المعاني، كما أنّ المعاني التي

تنزّلت من تلك الحقائق لا يمكن أن تسعها الألفاظ.

حقيقة وراثة الأوصياء للنبيّ صلي الله عليه و آله: … ص: 337

ومن ثمّ ورد أنّه صلي الله عليه و آله لم يكلّم أحداً بكنه عقله قطّ، وكذلك الحال فيما تحمّله الوصيّ عليه السلام وولده الأوصياء عن النبيّ صلي الله عليه و آله، عمدته ليس من الألفاظ والمعاني من قبيل الحديث والرواية، بل عمدة ما تحمله عن النبيّ صلي الله عليه و آله هو حقيقة القرآن التي هي الروح الأعظم، وهو أعظم أنماء التحمّل؛ لأنّه اكتناه حضوري للحقائق لا يغيب عنه شي ء منها، بخلاف تحمّل المعاني فضلًا عن تحمّل الألفاظ.

ففرق بين الوصاية والفقاهة والرواية، حيث دلّت سورة القدر ونحوها من السور علي بقاء تنزّل ذلك الروح كلّ عام علي من يشاء من عباده، قال تعالي:

«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «1»

، وقال تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2»

، وقال تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3»

، فكما أنّ تنزّل الروح الأعظم في ليلة القدر دائم دائب في كلّ سنة بالضرورة، فكذلك ليلة القدر تعني وراثة وليّ اللَّه تعالي لمقام النبيّ صلي الله عليه و آله في تنزّل الروح عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 338

وقد تقدم في هذه المقالة أنّ ذلك الروح هو حقيقة القرآن، وأنّه عطف بيان وبدل علي الضمير في (أنزلناه) ولو من باب بدل الجملة من جملة، ومن ثمّ قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1»

، والمطهّرون بصيغة الجمع وهم أهل آية التطهير، حيث قال تعالي: «إِنَّمَا

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2».

وتقدّم أنّ الكتاب المكنون ليس لوحاً ونقش صور الألفاظ، بل هو الروح (الذي هو حقيقة القرآن التكوينية)، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «3»

، فالروح الأمري هو الكتاب، والذي يمسّ الكتاب هو الذي يتلقّي تنزّل الروح الأمري كلّ عام في ليلة القدر، والمطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون هم الأئمّة عليهم السلام الذين يتوارثون الكتاب وهو الروح الأمري، حيث قال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «4»

، فالهداية الأمرية هي بالروح الأمري.

وكذلك في قوله تعالي: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» «5»

، والذين اصطفاهم وأصفاههم أهل آية التطهير، فهذه الآيات تتشاهد لبعضها البعض لتدلّ علي أنّ الأئمّة المطهّرون المصفّون الذين يمسّون الكتاب ويرثوه يتلقّون حقيقة الكتاب، وهو الروح الأمري والذي يتنزّل في ليلة القدر في كلّ عام علي من يشاء اللَّه من عباده، وقد ذُكر عنوان ورثة الكتاب والذين يمسّونه بصيغة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 339

الجمع؛ للتدليل علي أنّهم مجموعة ممتدّة طوال عمر هذا الدين وما بقي القرآن.

قراءة جديدة في حديث الثقلين وأنّ الأئمّة عليهم السلام هم الثقل الأكبر: … ص: 339

ولكي نبرهن علي ذلك لابدّ من توضيح جملة من الأُمور:

الأوّل: إنّهم عين حقيقة القرآن، وهذا معني عدم افتراق القرآن عن العترة، أي عدم افتراق حقيقة القرآن التكوينية وهو الكتاب المكنون وهو الروح الأعظم- عن ذوات العترة المطهّرة، بل هو أحد أرواحهم الذي يسدّدهم.

قراءة جديدة في آية … ص: 339

«وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»:

وهذا معني تنزيل نفس عليّ عليه السلام منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله في قوله تعالي: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» «1»

، كيف لا والروح الأمري الذي هو الروح الأعظم والذي هو حقيقة القرآن وهو الكتاب المبين الذي نُزّل علي قلب النبيّ صلي الله عليه و آله وأُوحي إليه- قد ورثه الوصيّ ويتنزّل عليه وعلي ذرّيته الأوصياء عليهم السلام.

وفي صحيح أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «2»؟ قال:

خلق من خلق اللَّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «3».

وفي صحيحه الآخر قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ «وَيَسْأَلُونَكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 340

عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» «1»

؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وهو مع الأئمّة، وهو من الملكوت» «2».

وفي صحيح ثالث لأبي بصير بعد وصفه للروح بما تقدّم-: «لم يكن مع أحد ممّن مضي غير محمّد صلي الله عليه و آله، وهو مع الأئمّة يسدّدهم» «3».

وفي موثّق علي بن اسباط عن أبيه أسباط بن سالم زيادة قوله عليه السلام: «منذ أنزل اللَّه عزّوجلّ

ذلك الروح علي محمّد صلي الله عليه و آله ما صعد إلي السماء، وإنّه لفينا» «4».

وفي رواية أبي حمزة قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول اللَّه عزّوجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «5»

..» الحديث «6». وهذا المعني الذي يشير إليه عليه السلام هو ما تقدّم ذكره من أنّ الأوصياء في تحمّلهم عن النبيّ صلي الله عليه و آله ليس هو تحمّل رواية ألفاظ، ولا مجرّد فهم معاني، بل حقيقة تحمّلهم وعمدته هو تحمّل حقيقة القرآن التي هي روح القدس.

فعمدة ما يتلقّونه بقلوبهم وأرواحهم عليهم السلام هو عن قلب وروح النبيّ صلي الله عليه و آله، وليس العمدة هو عن مجرّد لسانه الشريف وآذانهم الطاهرة، ولا عمدته من كتب يقرأونها كالجامعة ونحوها، فهم بدورهم فيما يبلغونه من ألفاظ مؤدّية إلي طبقات المعاني الموصلة إلي بعض الحقائق التي تلقّوها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 341

قراءة جديدة في حفظ وبقاء الذكر والقرآن المنزّل: … ص: 341

فمن ثمّ يكون دورهم متمّم ومكمّل لدور النبيّ صلي الله عليه و آله في هداية البشرية، وإلي ذلك يشير قوله تعالي في آية الغدير: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» «1»

، لبيان خطورة وشدّة دورهم عليهم السلام المتمّم لدور النبيّ صلي الله عليه و آله في تبليغ الرسالة، وأنّه الأمر الذي يجب أن يُبلّغ لامتداد الرسالة وبقاء القرآن، أي بقاء حقيقيته النازلة والمتنزّلة منها درجات في كلّ عام في ليلة القدر لابقاء المصحف المنقوش بالخط.

وإلّا لو كان دورهم هو مجرّد النقل السماعي اللفظي

عن الرسول كقناة لإيصال الألفاظ والصوت لما كان لسان الآية بهذا اللحن الشديد والخطب البليغ، كما ان تعليق وتبليغ الرسالة برمّتها علي شخص يخلف النبيّ عليهم السلام وهو أمير المؤمنين عليه السلام لابدّ أن يكون في تحمّله عن النبيّ صلي الله عليه و آله خصوصية لا يشترك معه فيها أحد وإلّا لشاركه آخرون في القيام بذلك الدور ولَمّا انحصر تبليغ الرسالة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله به.

وليست هذه الخصوصية وليدة عن كثرة سماع الوصي لكمية كثيرة من الأحاديث أو لقوّة حافظة عليّ عليه السلام لما يسمعه من الحديث علي النمط المألوف، ولا لمجرّد أكثرية ملازمته وإلّا لشاركه الآخرون في ذلك ولو بدرجة نازلة. وان تفسير خصوصية عليّ والعترة الطاهرة بمجرّد هذه المزايا لا يحسم جدلية السؤال عن وجه تخصيص الدور بهم دون بقية الصحابة والتابعين وسائر فقهاء وعلماء الأُمّة بل لكانت هذه المزايا نظير الترجيع بين الفقهاء في مسند الفتيا والقضاء وليست عملية إصفاء إلهي بل لما كان في تقديم المفضول علي الفاضل ذلك القبح الشديد المستنكر بل للزم احتياج العترة إلي مشاركة الصحابة والتابعين معهم في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 342

القيام بهذا الدور.

بل خصوصية الإصطفاء الإلهي لهم دون غيرهم هو لحملهم حقيقة القرآن التي هي الروح الأمري والتي قد تقدّم بيان صفاتها في الآيات والسور والروايات التي تقدّمت، وتبين أنّ لديهم عليهم السلام علم حقيقة القرآن كلّه، فضلًا عن درجات معانيه غير المتناهية وألفاظه، وهذا التراث والوراثة التكوينية لا يشاركهم فيها غيرهم بأدني مشاركة، وهذا معني انحصار باب مدينة علم النبيّ صلي الله عليه و آله بعليّ عليه السلام، بل ليس لغيرهم مهما بلغت درجته من العلم سوي الوقوف علي حدود المعاني الظاهرة

وبعض درجاتها التي توصّل إليها بواسطة الألفاظ.

وحيث إنّ الحاجة وبقاء الرسالة قائم بحقيقة القرآن لا بسطوح المعاني المنزّلة من تلك الحقيقة، ولأجل ذلك كان مقدار ما تنزّل من القرآن من المعاني الظاهرة والألفاظ لا يسدّ الحاجة لهداية البشرية إلّابضميمة التأويل، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، فالتأويل باب مفتوح …

درجات وطبقات المعاني المتنزّلة من الحقائق.

الوجودات الأربعة للقرآن: … ص: 342

ولتوضيح أقسام وجود القرآن ينبغي الالتفات إلي التقسيم الذي ذُكر في علم المنطق من أنّ لكلّ شي ء أربعة وجودات:

الأوّل: الوجود الكتبي للشي ء، وهو نقش اسم الشي ء علي الورق أو نقش رسم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 343

صورته فيما لو كان جسمانياً- كلفظ زيد أو صورته، ويُسمّي الوجود الكتبي لزيد ونقش اسمه.

الثاني: الوجود الصوتي لاسم زيد أو صوته، ويُسمّي بالوجود اللفظي الصوتي لزيد.

وهذان الوجودان يقال عنهما الوجودان التنزيليان لزيد أو الوضعيان، أي أنّهما قرّرا وجودين لزيد أو للشي ء بحكم الاعتبار الأدبي، فلولا تباني البشر وأهل اللسان عن التعبير عن معني زيد أو عن وجوده بذلك اللفظ أو بذلك الرسم والنقش من الكتابة، لما كان لهما دلالة علي معني زيد أو وجوده، ولما كان له صلة بحقيقة زيد ولا بمعناه، ومن ثمّ يعبّر عنهما وجودان تنزيليان لزيد، فلفظ زيد الصوتي تنزيل لحقيقة زيد، وكذلك نقش كتابة لفظ زيد تنزيل لحقيقة زيد.

الثالث: معني زيد في الذهن والصورة التي له في الذهن، أي التي تنتقش تكويناً في ذهن الإنسان وفكره، ويُقال عنه الوجود المعنوي لزيد، وهذا الوجود تكويني وليس من قبيل

الأوّلَين، أي ليس وجوداً تنزيلًا اعتباراً، بل هو وجود تكويني لزيد، ولكن لا لحقيقة وجوده بل لحقيقة معناه.

وقد يُطلق عليه تنزيل تكويني لا اعتباري لحقيقة وجود زيد، فهو ليس عين حقيقة الوجود ولكنّه عين حقيقة المعني، وبين ذات معني زيد وذات وجوده فرق فارق، بل إنّ لمعني زيد مراتب: منها صورة بدنه في الذهن، ومنها معني روحه ونفسه وعقله، أو ماهيته وذاته العقلية.

الرابع: حقيقة وجود زيد وهو وجوده العيني الخارجي، وهو وجود تكويني لزيد، كما أنّه الأصل في أقسام وجودات زيد، فليس هو وجود تنزيلي اعتباري أدبي كالأوّلَين، ولا وجود تكويني كالقسم الثالث، بل هو حقيقة وعين وجود زيد وهذا القسم بدوره أيضاً يشتمل علي مراتب: منها الوجود البدني لزيد، ووجود

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 344

نفسه وروحه.

فتبيّن أنّ الوجود التكويني هو القسمان الأخيران، وكلّ منهما ذو مراتب، وهذا التقسيم يعمّ جميع الأشياء؛ فإنّ لكلّ شي ء من الأشياء وجود لفظي صوتي وكتبي نقشي، ووجودان تكوينان، وهو وجود معانيها في الذهن ووجود عيني خارجي.

فإذا تبيّن ذلك يتبيّن أنّ للقرآن الكريم هذه الوجودات الأربعة، فالتنزيل الذي في المصحف هو وجود كتبي ونقش للوجود اللفظي للقرآن، كما أنّ صوت قراءة القرآن هو وجود لفظي صوتي للقرآن.

ولكلّ من هذين الوجودين أحكام، فإنّه يُحرم لمس خطّ كتابته من دون طهارة، كما أنّ وجود المصحف الشريف المقدّس حرز وأمان، كما أنّه يُستحبّ النظر إليه، والقراءة منه أفضل وأكثر فضيلة من القراءة عن ظهر قلب، كما أنّ قراءة القرآن وهو الوجود الصوتي- يدخل النور في البيت ويطرد الشياطين ويُكثر البركة والرزق، ويُستحب تحسين الصوت وتجويده، كما يُستحب قراءته بخشوع وحزن.

وأمّا معاني القرآن فهو الوجود الذهني للقرآن ومعانيه وهو مصدر الهداية والبصيرة.

ومن أحكامه: لزوم التدبّر،

كما قال تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» «1»

، فالتدبّر سرح للنظر في المعاني والسير في مدارجها بالتفكّر، قال تعالي: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» «2»

. فلا يقتصر وجود القرآن علي النقش الكتبي ولا علي حركة ولقلقة اللسان وبديع التجويد وتحسين الصوت، بل كلّ ذلك إلي غاية أهمّ وهو وجود القرآن في أُفق المعني، والاستضاءة بنور هدايته

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 345

من خلال وجوده في أُفق المعني ورحاب بصيرة تلك المعاني، ومنه تحصل معرفة الدين والشريعة والشرائع. وينقسم إلي معني ظاهري ومعني تأويلي، وإلي العلوم جمّة، علوم الحكمة والآداب والأخلاق، وأسرار الفقه والقانون، وحقائق التكوين والمعارف، وعلوم التربية الإنسانية، وبالجملة العلوم العقلية والظواهر الطبيعية، وغيرها من منظومات العلوم.

حقيقة القرآن ووجوده: … ص: 345

والوجود الرابع للقرآن العيني الخارجي هو الذي يشير إليه قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1»

فربط تعالي بين إنزال الروح الأمري وإحيائها وإرسالها، ومعرفة النبيّ صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه، وقد عبّر عن ذلك بالإيحاء وهو الإرسال الخفي، وتشير الآية إلي معرفة النبيّ صلي الله عليه و آله بجملة الكتاب دفعةً.

ونفس هذا الترابط بين الروح الأمري وبين نزول جملة الكتاب نجده في سورة القدر، حيث قال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..» «2»

، نلاحظ أنّ نزول القرآن والروح الأمري مترابطان، وكذلك في سورة الدّخان، قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ

أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «3»

، والضمير عائد علي الكتاب

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 346

المبين جملة وإرسال الروح الأمري.

فيستخلص من جملة هذه الآيات أنّ نزول القرآن جملة هو نزول حقيقته وهو الروح الأمري، وهذا هو حقيقة الفرق بين تنزيل القرآن نجوماً الذي هو الوجود اللفظي للقرآن، وبين نزوله دفعة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 347

الأمر الثاني إنّ للقرآن درجات ومدارج … ص: 347

اشارة

هناك حقيقة ثابتة مسلّمة بين المسلمين، وهي حقيقة قرآنية من كون القرآن المنزّل ذا تأويل، كما قال تعالي: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، فللقرآن تأويل وبطون، وقال تعالي: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ» «2»

، وقال تعالي: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» «3»

، فالتأويل والبطون سوي ظاهره المنزّل، بل وتلك البطون التي لا تنفذ من بحور حقائق القرآن تترقّي وتتّصل بأصل حقيقة القرآن الغيبية التي يُطلق عليها: الكتاب المكنون، والكتاب المبين، أو اللوح المحفوظ، أو أُمّ الكتاب.

وعلي ضوء ذلك، فليست الشريعة والدين تقتصران وتنحصران في الظاهر المنزّل، بل هما يشملان تلك البطون، فلا ينحصر تبليغ وأداء الشريعة بأداء الظاهر المنزّل وإبلاغ آيات التنزيل، بل يعمّ تلك البواطن.

ولم يقف علي تلك البواطن وأُمّ الكتاب إلّاالنبيّ صلي الله عليه و آله وعترته الذين ورثوه بوراثة الاصطفاء، فسنخ ونمط تحمّل النبيّ صلي الله عليه و آله وتبليغه وتحمّل أهل بيته عليهم السلام عنه وتبليغهم ليس سنخ نمط تحمّل وتبليغ الرواة للأخبار الحسّية المسموعة لفظاً التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 348

تحمّلوها ليؤدّوها إلي غيرهم، كي يكون الحال في هذا التبليغ (رُبّ حامل لا يفقه ما حُمّل أو رُبّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه)، لأن ما تحمّله النبيّ صلي الله عليه و

آله عن اللَّه تعالي وتحمّله أهل بيته عليهم السلام عنه هو تحمّل للحقائق المهيمنة والمحيطة بالمعاني

حقيقة تبليغ النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام: … ص: 348

المنزّلة في آفاق درجات المعاني الباطنة والظاهرة والألفاظ المقروءة.

فمن ثمّ سُمّي هذا التبليغ والإبلاغ (إنزالًا) و (تنزيلًا)، بينما سُمّي تبليغ الرواة إلي غيرهم (نقلًا) وإيصالًا في خطّ أُفقي، ونقلًا للحديث الملفوظ وإسماع الكلام المسموع (ورواية) للخبر المعلوم بالحواسّ الظاهرة، فالذي تحمّلوه هو ألفاظ مسموعة وطبقة من المعاني الظاهرة لأفهامهم من وراء حجاب اللفظ، فهذا النمط والنوع من التحمّل والتبليغ يتحرّك في سير أُفقي، ومن ثمّ قد يصعد المنقول إليه ويتصاعد إلي بعض درجات المعاني وغورها، علي عكس الناقل الذي ربّما يكون واقفاً علي الألفاظ والدرجة الأُولي لمعانيها، فيكون المنقول والمحمول إليه الخبر أكثر إحاطةً من الناقل والحامل.

وهذا لا يُتصوّر في التحمّل الوحياني والتبليغ النبويّ، وتحمّل الإمام عن النبيّ وتبليغه لا يكون إلّاعن إحاطة بالحقائق الوجودية، فضلًا عن الإحاطة بكل آفاق المعاني التي هي صور منعكسة متنزّلة عن تلك الحقائق، وأشعة ولمعات يسيره من وهج نور الحقيقة، كيف لا، وتلك الحقائق لا يشذّ عنها رطب ولا يابس ولا غائبة في السماوات والأرض، ولا ما كان ولا ما يكون وكلّ شي ء مستطرّ، وتحيط بكلّ هدي ونور وكلّ فلاح وصلاح وكل سعادة ونجاح، وتبيان لكلّ شي ء.

ففيما يبلّغه النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لا تقف الرعية بما فيها من الفقهاء والعلماء والحكماء والعارفين- إلّاعلي الألفاظ المتنزّلة والمعاني الظاهرة، وقد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 349

يترقّي الحال في بعضهم للوصول إلي بعض درجات المعاني أو لمح بعض لمعان أنوار الحقائق، من دون التحقّق بعينية تلك الحقائق فضلًا عن اكتناهها، ولا الإحاطة بجميع مدارج المعاني.

من ثمّ تدوم وتظلّ حاجة الرعية والبشرية قائمة ومستمرّة

إلي تواصل بيانات النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وهدايتهم وتبليغهم، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2».

وكذلك يشير قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية إسحاق بن عمار، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «3»

، ثم قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، وقد كان عند العالم علم لم يكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه، وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه، وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويستحون أن ينسبهم الناس إلي الجهل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 350

ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه

وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد، والذي منعهم منّا العداوة والحسد لنا.

لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم، وموسي نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علَم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

؟ فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2»

، وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لايصبر علي علمه، فكذلك واللَّه- ياإسحاق بن عمار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لايحتملون واللَّه علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحق» «3».

فإذا التفتّ

بنحو الإجمال إلي سنخ تحمّل وتبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 351

وتحمّل وتبليغ أهل بيته عليهم السلام عنه، يجدر بالمقام الالتفات إلي كون القرآن ذا حقيقة عينية غيبية، والتي هي الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، حيث يشير إلي وجود كينونة للقرآن علوية تُدعي بالكتاب المكنون، أي المحفوظة من أن يصل إليها إلّاالمطهرون من الذنوب والرجس، وأنّ ما بين الدفّتين من القرآن تنزيل ونزول من ذلك المقام العلوي له.

ومثل هذه الإشارة نجدها في قوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فوصف القرآن بالمجد والعظمة لكينونته العلوية، أي أنّ المجد والعظمة وصف لذلك الوجود، ولا يغرق الباري تعالي في وصف موجود بالعظمة إلّالخطورة موقعيته في عالم الأمر والخلقة، وتلك الكينونة هي المسمّاة باللوح المحفوظ، والوصف بلفظ المحفوظ مع لفظ المكنون مترادف.

وكذلك نجد الإشارة نفسها في قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «3»

، فوصف القرآن بأنّ له كينونة في أُمّ الكتاب وهي وجود علوي لدني عنديَّ لدي الباري تعالي، وهذا الوجود موصوف بالعلوّ والإحكام في قبال التفصيل الذي طرأ علي القرآن حين النزول، كما يشير إليه قوله تعالي: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَي عِلْمٍ هُدًي وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «4».

وكذلك قوله تعالي: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 352

خَبِيرٍ» «1»

، وكذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَارَيْبَ

فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

، فالقرآن النازل تفصيل ونجوم للكتاب العلوي، ويشير إلي الوجود العلوي للقرآن قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «3»

، أي أنّ القرآن متنزّل من الكتاب المبين، وقد وصِفَ الكتاب المبين بعدّة أوصاف:

منها: قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقال تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقوله تعالي: «.. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7».

ثمّ إنّ هناك تعدّداً أيضاً بين مقام وموقع القرآن الكريم بحسب الكتاب المبين واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وبين إنزاله جملةً واحدة، وبين تنزيله مفصّلًا مفرّقاً بحسب الزمان، فهناك ثلاثة مقامات ومواقع ومراحل رئيسية للقرآن الكريم لا يسع المقام الخوض في تفصيلها، إلّاأنّ المحصَّل ممّا مرّ أنّه صلي الله عليه و آله عالم بالكتاب المبين واللوح المحفوظ.

وكذلك أهل بيته المطهّرون، كما أنّه صلي الله عليه و آله قد أُنزل إليه القرآن جملة وهي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 353

المرحلة الثانية، كما تنزّل عليه القرآن نجوماً مفصّلًا أو تفصيلًا وهي المرحلة الثالثة، كما تبيّن أنّ حقائق القرآن العينية موجودة بوجود علوي، وأنّ المعاني وطبقاتها متنزّلة من تلك الحقائق معاكسة وحاكية لها، وأنّ ألفاظ التنزيل ثوب وصورة.

قراءة في معني إكمال الدين بعليّ: … ص: 353

للمعاني المتنزّلة ودرجاتها إلي درجة المعني الظاهر.

فالكتاب لا يقتصر علي

التنزيل والظاهر، بل له بطون لا تُحصي من المعاني، ولبطونه بطون هي حقائق مهيمنة، وأنّه لا يحيط بكلّ ذلك إلّاالنبيّ صلي الله عليه و آله بما أوحاه اللَّه إليه، ومن بعده أهل بيته عليهم السلام عنه، وبالتالي لا يمكن الاقتصار علي التنزيل والظهور في الوصول إلي معرفة الدين القويم ونيل الهداية الإلهية من دون وجود الشخص المبين لتلك البطون والكاشف عن حقائق التنزيل؛ لحاجة البشرية إلي الكتاب كلّه ولكلّ درجاته علي نحو التدريج بحسب مرّ الزمان والعصور.

فمن ثمّ اتّفقت الإمامية أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام- علي أنّ الدين لم يكمل بالتنزيل إلّابعد أن نصّب اللَّه عليّاً إماماً وهادياً لدينه وكتابه من بعد الرسول صلي الله عليه و آله، كما ينادي بذلك قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

، فإكمال الدين وإتمام النعمة لم يحصل بمجرّد التنزيل، بل بنصب قيّم بعد النبيّ صلي الله عليه و آله مبيناً لبطون القرآن وحقائقه، ومن بعد عليّ أولاده المعصومين، وفي هذا الزمان ولده الحجّة الإمام المنتظر سلام اللَّه عليه.

وقد روي الكليني بسنده إلي الحسن بن العباسي بن الحريش عن أبي جعفر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 354

الثاني عليه السلام قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: بينا أبي عليه السلام يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيض له في حديث مسائلة الياس النبيّ عليه السلام للباقر عليه السلام- وما قاله له: اخبرني عن هذه العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟

قال أبو جعفر عليه السلام: أما جملة العلم فعند اللَّه جلّ ذكره، وأمّا ما لابدّ للعباد منه فعند الأوصياء. ففتح الرجل عجيرته واستوي جالساً وتهلّل وجهه وقال: هذه أردت ولها أتيت زعمت أنّ

علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟

قال: كما كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يعلمه، إلّاأنّهم لا يرون ما كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يري؛ لأنّه كان نبيّاً وهم محدَّثون بالفتح- وأنّه كان يفد إلي اللَّه عزّوجلّ فيسمع الوحي وهم لا يسمعون. فقال صدقت يابن رسول اللَّه …

فإن قالوا لك: فإنّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان من القرآن فقل: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1».

فإن قالوا لك لا يرسل اللَّه عزّوجلّ إلّاإلي نبيّ فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزّل من سماء إلي سماء أو من سماء إلي أرض.

فإن قالوا: من سماء إلي السماء، فليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلي معصية.

فإن قالوا من سماء إلي أرض وأهل الأرض أحوج الخلق إلي ذلك فقل: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه؟

فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم فقل: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «2»

لعمري ما في الأرض ولا في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 355

السماء ولي للَّه عزّ ذكره إلّاوهو مؤيد، ومن أيد لم يخطّ وما في الأرض عدوّ للَّه عزّ ذكره إلّا وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما إنّ الأمر لابدّ من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض كذلك لابدّ من وال. فإن قالوا: لا نعرف هذا فقل: (لهم) قولوا ما أحببتم، أبي اللَّه عزّوجلّ بعد محمّد صلي الله عليه و

آله أن يترك العباد ولا حجّة عليهم» «1».

ويتبيّن من ذلك أنّ إنكار أحد أئمّة أهل البيت عليهم السلام أي إنكار اتّصال سلسلة إمامتهم أعظم كفراً من إنكار أحد المرسلين السابقين، أي من إنكار سلسلة اتّصال رسالات المرسلين السابقين؛ وذلك لأنّ إنكار سلسلة اتّصال إمامة أهل البيت تعني إنكار بقاء حجّية القرآن، للقول بتعطيل الكتاب بتعطيل نزول تأويله في كلّ عام.

وإنكار القرآن أعظم جحوداً من إنكار أحد الكتب المنزّلة السابقة، وقد عرفت أنّ ليلة القدر قد كانت منذ أوّل نبيّ بعثه اللَّه عزّوجلّ واستمرّت مع جميع الأنبياء إلي قائم الأنبياء إلي خاتم الأنبياء، وكانت مع أوصياء الأنبياء، وهي مع الأوصياء من أهل البيت عليهم السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك لأنّها من أبرز قنوات الاتّصال مع الغيب، وبتوسّطها ينزل تأويل الكتب السماوية في من سبق، وتأويل القرآن علي النبيّ صلي الله عليه و آله وعلي أهل بيته من بعده.

ومن ثمّ ورد أنّه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن كما مرّت الإشارة إليه، فليلة القدر تمثّل وحدة السبب الاتّصالي بين الأرض والسماء، وأنّ إنكارها بإنكار أحد الأئمّة من أهل البيت هو في الحقيقة إنكار لطبيعة هذا الاتّصال الواحد الموحّد لدي السفراء الإلهين، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 356

وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ

عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2»

، فلم يكتفِ الباري عزّوجلّ في الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله فقط، وإنّما قرن معه بالنور النازل معه والذي هو الروح الأمري روح القدس، الذي هو حقيقة الكتاب الذي وصف بالنور بأنّه مع من اصطفاه اللَّه من العباد بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك لقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «3».

وروي الكليني بسند معتبر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لقد خلق اللَّه عزّوجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ وصيّ يكون، ولقد قضي أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلي مثلها من السنة المقبلة من حجّة ذلك، فقد ردّ علي اللَّه عزّوجلّ علمه لأنّه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدّثون أيضاً بأنّهم جبرئيل أو غيره من الملائكة عليهم السلام.

قال: أمّا الأنبياء والرسل صلي الله عليه و آله فلا شكّ ولابدّ لمن سواهم من أوّل يوم خلقت فيه الأرض إلي آخر فناء الدنيا أن تكون علي أهل الأرض حجّة ينزل ذلك في تلك الليلة إلي من أحبّ من عباده.

وأيم اللَّه لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر علي آدم وأيم اللَّه ما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 357

مات آدم إلّاوله وصيّ وكلّ من بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه من بعده، وأيم اللَّه إن كان النبيّ ليؤمر فيها يأتيه من الأمر في تلك الليلة من آدم عليه السلام إلي محمّد صلي الله عليه و آله أن

أُوحي إلي فلان، ولقد قال اللَّه عزّوجلّ في كتابه للولاة من بعده محمّد صلي الله عليه و آله خاصّة «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» «1»

يقول: «استخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيّكم، كما استخلف وصاة آدم من بعده حتّي يُبعث النبيّ الذي يليه، يعبدونني بإيمان لا نبيّ بعد محمّد صلي الله عليه و آله، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد بالعلم ونحن هم، فاسألونا فإن صدّقناكم فأقرّوا وما أنتم بفاعلين، أمّا علمنا فظاهر، وأمّا إبان أجلنا الذي يظهر فيه الدين منّا حتّي لا يكون بين الناس اختلاف، فإنّ له أجلًا من ممرّ الليالي والأيام، إذ أتي ظهر وكان الأمر واحداً.

وأيم اللَّه لقد قُضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف، ولذلك جعلهم شهداء علي الناس ليشهد محمّد صلي الله عليه و آله علينا، ولنشهد علي شيعتنا ولتشهد شيعتنا علي الناس. أبي اللَّه عزّوجلّ أن يكون في حكمه اختلاف، أو بين أهل علمه تناقض.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: فضل إيمان المؤمن بجملة (إنّا أنزلناه) وبتفسيرها علي من ليس مثله في الإيمان بها كفضل الإنسان علي البهائم، وإنّ اللَّه عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها …» «2».

وقد ورد من طرق الفريقين عنه صلي الله عليه و آله قوله لعليّ عليه السلام: «أنا أقاتل علي التنزيل وعليّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 358

يقاتل علي التأويل» «1»

، ومنه ظهر أنّ سنخ تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه وأهل بيته عليهم السلام

عنه لا يقف علي حدّ التنزيل والألفاظ، بل يتّسع إلي ما لا يُحصي من مدارج المعاني وبيان الحقائق، فالحاجة إلي تبليغهم وأدائهم عن اللَّه ووساطتهم بين اللَّه وخلقه تمتدّ إلي يوم القيامة في دار التكليف ونشأة الامتحان، ما دام البشر يحتاجون في كل بيئة إلي رؤية كونية عقائدية أعمق للحقائق والمعارف، ويحتاجون إلي هداية من الشريعة إلي أطوار نظامهم الاجتماعي السياسي وحقوله.

فتلخّص، أنّ ما تسالم عليه المسلمون من وجود الظهور والبطون في الكتاب العزيز وكون علومه وحقائقه وكلماته لا تتناهي، يستلزم دوام الحاجة إلي تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام من بعده، وعدم سدّ الحاجة بخصوص الظاهر بعد كون الإيمان بباطن القرآن علي حذو الإيمان بظاهره.

ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، فإنّ توقّف تبليغ مجمل الرسالة علي نصب عليّ عليه السلام في الغدير بحيث لو لم يُنصّب لم تُبلّغ الرسالة من رأس وهذا المفاد في الآية، مؤشّر واضح علي أنّ ما حمل النبيّ صلي الله عليه و آله من الرسالة بالوحي مُعظَمه لا يقتصر علي التنزيل، بل جُلّه في البطون وحقيقته العلوية التي لا يشذّ عنها شي ء، وهذا لم يؤدِّه النبيّ إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 359

لعليّ وأهل بيته خاصّة، وتأديته صلي الله عليه و آله لأهل بيته لم تقتصر علي النمط الحسّي ولا هو عمده الطريق لتلقّيهم عليه السلام عنه صلي الله عليه و آله.

فمن ثمّ كان إبلاغ النبيّ صلي الله عليه و آله التنزيل للناس من دون نصب عليّ نفي لإبلاغ وبلاغ جلّ الرسالة،

وأنّ ما عند الناس من الدين والشريعة والرسالة هو أقلّ من قليل، إلّاباتّباعهم لأهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله وأخذهم عنهم ما أدّاه النبيّ إلي أهل بيته من حقائق القرآن والشريعة، ويشير إلي ذلك ما روته العامّة في الصحاح وغيرها كما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء «1»: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش».

وفي رواية: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّي يمضي له فيهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش» «2»

، وفي رواية عن أبي داود: «لا يزال هذا قائماً حتّي يكون لكم إثني عشر خليفة» «3»

. فإنّ التعبير بأنّ الدين قائم بهم أي أنّه ينقضي بزوالهم ويزول بمضيهم، وأنّ عمر هذا الدين وصلاحه مرهون عند اللَّه عزّوجلّ بالخلفاء الاثني عشر.

وهذا المفاد للحديث النبويّ المستفيض يقتضي بأنّ ما وصل بأيدي الناس من ظاهر التنزيل من المصحف الشريف وروايات السنّة النبويّة بمجرّده لا يكفي في بقاء الدين، ممّا يدلّ علي أنّ معظم الدين وقوامه موجود لدي الاثني عشر سلام اللَّه عليهم دون غيرهم، وكذا لا يمكن الاكتفاء بظاهر التنزيل والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام والاستغناء عن المهدي (عج).

حيث قال تعالي: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 360

كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «1»

، وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «2»

، ليس المراد من الكلمات التي لا تنفذ الألفاظ الصوتية أو المنقوشة المدوّنة أو المعاني المفهومة المتصوّرة؛ إذ إطلاق الكلمة والكلمات علي هذين الموردين إطلاق مجازي عند العقل، إذ الكلمة هي

الشي ء الدالّ بذاته تكويناً علي أمر آخر، ومن ثمّ يُطلق علي وجودات الأشياء المخلوقة لا سيّما الشريفة- أنّها كلمات اللَّه؛ لدلالتها علي صفات الباري تعالي.

ومنه يُعرف الترادف عند العقل بين الكلمة الحقيقية والآية، ومن ثمّ ورد إطلاق كلّ منهما علي النبيّ عيسي عليه السلام، وقال تعالي في بشارة الملائكة لمريم: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «3»

، فجعل تعالي وجود نبيّه كلمة منه تعالي وتكلّمٌ منه، وجعل عنوان المسيح عيسي ابن مريم اسم للكلمة، كما أطلق تعالي الآية علي عيسي ابن مريم حيث قال: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا» «4».

فهذه الكلمات الوجودية والتي قد تعرّضت جملة من الآيات لنعوتها وصفاتها والتي لا تنفذ، كلّها مجموعة في الكتاب المبين؛ إذ الكتاب هو ما يتألّف من كلمات، فالكتاب المبين متكوّن من وجود جملي لكافّة الكلمات الوجودية بالوجود الملكوتي، ومن ثمّ نعت الكتاب المبين بأنّه مفاتح الغيب كما في الآية المتقدّمة: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 361

مُبِينٍ» «1».

تلقي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته للكلمات والكلام الإلهي بوجوده التكويني لا الاعتباري: … ص: 361

إنّ ما يتلقّاه النبيّ صلي الله عليه و آله من وحي لا ينحصر في الوحي الإنبائي، كما أنّ سنخ الوحي الإنبائي لا ينحصر في إلقاء المعاني أو الأصوات، بل إنّ عمدة أنواع وأنماط الوحي هو ما يكون من قبيل تلقّي حقائق الأشياء بحقيقتها التكوينية بكينونة تفوق الكون المادّي، وهو ما يعبّر عنه بنشأة الملكوت في القرآن الكريم، قال تعالي: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «2».

وقد أشار القرآن الكريم إلي وجود كينونة للأشياء في نشأة الملكوت فقال

تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقال تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلَي رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» «4»

، وقال تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقال تعالي: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «6»

، وغيرها من الآيات التي تدلّ علي أنّ في نشأة الكتاب المبين وهي نشأة تحيط بغيب السماوات والأرض يستطرّ فيها كلّ شي ء بحسب ملكوته، قال تعالي: «وَكَذَلِكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 362

نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «1»

، فأثبت تعالي للسماوات والأرض ملكوت، فإحاطة وهيمنة الملكوت علي كلّ الأشياء وصف مقرّر للكتاب المبين، وتقرّر الأشياء بحسب ملكوتها فيه ليس تقرّر معانيها ومفاهيمها، بل تقرّر كينونة وجودية ملكوتية، بل أنّ هناك أوصافاً ونعوتاً قرآنية أُخري للكتاب المبين تفوق ذلك.

والقرآن جملة وهو جملة حقيقية، فحقيقة القرآن ليست بلفظ عربي أو أعجمي كما أنّه ليس بمعني بل هو الروح الأعظم، حيث عبّر عنه في سورة النحل قوله تعالي: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًي وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «2»

، والآية الكريمة في نفس السورة التي صدرها: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «3»

، فبين الآيتين في السورة الواحدة ارتباط، وأنّ ذلك الروح الذي ينزل به الملائكة هو روح القدس، وهو الروح النازل في ليلة القدر بجملة الكتاب،

ويعضد هذا الارتباط بين الآيتين في سورة النحل توسّط آية أُخري في السورة وهي قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «4»

، ومن الواضح في هذه الآية إرادة جملة الكتاب وحقيقته، لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 363

النزول النجومي ولا تنزيل القرآن بوجوده اللفظي؛ لأنّ الذي فيه تبيان كلّ شي ء هو حقيقة القرآن الذي يعبّر عنه بالكتاب المبين والمكنون واللوح المحفوظ، إلي غيرها من الأوصاف الآتي استعراضها لهذا الوجود الرابع.

وكذلك سيأتي استعراض روايات أهل البيت عليهم السلام الكاشفة لتفسير كلّ ذلك من ظاهر ألفاظ الآيات الكريمة. وتقدّم الكلام في أنّ القرآن اسم حقيقة لروح القدس، النازل علي النبيّ جملة في النزول الدفعي الجملي للقرآن كما في آخر سورة الشوري، وأنّه ملتحم مع روح النبيّ صلي الله عليه و آله ومن بعده مع أرواح الأوصياء من أهل بيته صلي الله عليه و آله.

ولا يخفي أنّ لفظة الكتاب شأنها في أقسام الوجود شأن ما تقدّم من الوجودات الأربعة لكلّ شي ء، فإنّ الكتاب يُطلق علي وجود النقش والرسوم المكتوبة، وهو الذي يُستعمل فيه كثيراً، كما يُطلق الكتاب أيضاً علي أصوات الألفاظ المجموعة فيقال قراءة الكتاب، ويُطلق علي وجود المعاني فيقال حفظتُ كتاباً كاملًا، ويُطلق علي الوجود العيني الخارجي الجامع للكلمات التكوينية.

وبعبارة أُخري: إنّ الكتاب الذي هو مجموع الكلمات والكلمة بدورها له أربع وجودات:

الأوّل: الكلمة المكتوبة المنقوشة.

الثاني: الكلمة الملفوظة المصوّتة.

الثالث: الوجود الذهني في الفكر للكلمة.

الرابع: الوجود العيني الخارجي لشي ء دالّ علي شي ء آخر.

كما أطلق تعالي القرآن علي عيسي عليه السلام في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ» «2»

، وهذا

الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقياً؛ لكون الأصل في معني الكلمة هو الشي ء الموجود لأجل الدلالة علي المعني الخفي، وأي دلالة أعظم علي صفات اللَّه من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج، والكلمة مقاربة في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 364

معناها لمعني الآية، حيث إنّ معناها العلامة الدالّة علي معني ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية علي الوجودات التكوينية في كثرة كاثرة من الموارد في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «1»

، وقوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «2»

، وقوله تعالي: «فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ» «3»

، فأطلق علي النبيّ عيسي عليه السلام كلّاً من (الكلمة والآية)، ويقرب لفظ (الاسم) من هذا المعني من لفظ (الكلمة والآية) وإطلاقهما علي الوجود التكويني، حيث إنّ معناه من السمة وهو العلامة أيضاً الدالّة علي شي ء أو معني ما. فهذه الألفاظ الثلاثة هي بدورها أيضاً- لها أربع وجودات، الأُوليان اعتباريان وهما الصوت الملفوظ والنقش المرسوم علي الورق، والأُخريان تكوينيان:

الثالث: وجودها في أُفق المعني والفكر والذهن ومدارج المعاني.

الرابع: الوجودات العينية.

وعلي ضوء ذلك، فالكتاب الذي هو مجموع الكلمات أيضاً هو بدوره له أربع وجودات، اثنان اعتباريان وهما المنقوش والملفوظ، واثنان تكوينيان وهما الوجود في أُفق الفكر والذهن والوجود العيني الخارجي.

وإذا كان عيسي بن مريم عليه السلام بما له من روح نبويّة كلمة من هذا الكتاب وآية من آياته، فكيف بك في بقية الكلمات والآيات؟ بل ما هو الحال في جملة الكتاب مع أنّه تعالي يقول في عيسي بن مريم عليه السلام- الذي هو كلمة من هذا الكتاب- «وَآتَيْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 365

عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «1»

، فعبّر تعالي بتأييده بروح القدس، ممّا يفهم

أنّ روح القدس أعظم من روح النبيّ عيسي عليه السلام؛ حيث قال تعالي في عيسي عليه السلام: «وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «2»

، وقال تعالي: «اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «3»

، ومن ثمّ لم يكن للنبيّ عيسي العلم بالكتاب كلّه كما كان لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله؛ لقوله تعالي في عيسي: «قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «4»

، تبيّن الآية أنّه عليه السلام يبيّن بعض اختلاف بني إسرائيل لا كلّه.

وكذلك الحال في موسي عليه السلام حيث قال تعالي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «5»

فما كُتب لموسي ليس كلّ شي ء وإنّما من كلّ شي ء، بخلاف القرآن الكريم حيث وصف بالمهيمن وأنّه تبيان كلّ شي ء.

فهذا الارتباط بين كون عيسي كلمة وآية وبين كونه مؤيد بروح القدس، لا أنّ عيسي هو روح القدس.

كما أنّ الارتباط والصلة التي تشير إليها سورة القدر والدخان والشوري والنحل وغافر كما تقدّم استعراض آيات السور- بين الروح الأمري وروح القدس وبين نزول الكتاب المبين، يدلّ بوضوح أنّ الكتاب المبين حقيقته هو روح القدس، والذي يعبّر عنه في بعض الروايات بالروح الأعظم، فهذا الروح الذي هو حقيقة وجود الكتاب المبين هو الذي أُوحي به إلي النبيّ صلي الله عليه و آله في قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «6»

، فدراية الكتاب كلّه هو بإرسال هذا الروح إلي روح النبيّ، ومقتضي دراية النبيّ صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه هو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 366

التحام الروح في ضمن روحه صلي الله عليه و آله، وكذلك تنزّل هذا الروح في الليلة المباركة

وهي ليلة القدر والذي هو تنزّل لحقيقة الكتاب عليه صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 367

نعوت حقيقة الكتاب وهي روح القدس … ص: 367

اشارة

منها: قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «1»

، فوصف القرآن بأنّه يسيّر به الجبال وتقطّع به الأرض ويُحيي به الموتي، ومن الواضح أنّ هذه الخواص ليست للكتابة المنقوشة التي هي بين الدفّتين للمصحف المقدّس، بل هي لحقيقة القرآن الموجودة في الغيب وهي روح القدس.

ومنها: قوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، ومن الواضح أنّ لوح المحو والإثبات وما فوقه من أُمّ الكتاب ليس في المصحف الورقي، بل هو في نشأة الغيب.

ومنها: قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «3»

، ومن الواضح أنّ المصحف المقدّس المنقوش بين الدفّتين لو وُضع علي جبل ما رأيناه ينهدّ متصدّعاً، إذن، المراد بذلك هو نزول روح القدس علي ملكوت الجبل؛ لأنّ لكلّ شي ء ملكوت كما قال تعالي: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 368

فملكوت الجبل ليست له تلك القابلية والظرفية لنزول روح القدس عليه، بل لم تكن تلك القابلية في الأنبياء أُولي العزم كما تقدّمت الإشارة إليه، بل هي خاصّة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته المطهّرين، كما سيأتي بيان ذلك.

ومنها: قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1»

، ومن الواضح أنّ تبيان كلّ شي ء ليس في ظاهر المصحف المنزّل، وإنّما في الكتاب المبين في النشأة الغيبية أي روح القدس، ومن ثمّ تكرّر التعيير المشابه للوصف في سورة النحل وفي

سورة الشوري، ونظير هذا الوصف في قوله تعالي: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، فذكر أنّ فيه كلّ مغيّبات السماء والأرض وتقدير الحوادث، كما ذكر ذلك في سورة القدر والدخان، ونظيره قوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وكذلك قوله تعالي: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «6»

، وقوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبينٍ» «7».

ومن الظاهر أنّ هذه الإحاطة بتفاصيل كلّ الأشياء ليست في تفاصيل ظاهر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 369

التنزيل، وأنّما هو نعت للنشأة الغيبية لحقيقة الكتاب، ومن ثمّ هذا الوصف بيّن ظرفه في أرواح الذين أوتوا العلم في قوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «1»

، وهذا ممّا يدلّ علي التحام روح القدس مع من يتنزّل الروح عليه ليلة القدر، وهم الذين يؤتون علم الكتاب كلّه.

ونعوت الوجود التنزيلي للقرآن وصفت في الآيات العديدة أنّه بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» «2»

، فالتشابه وصف لظاهر التنزيل، بينما المبين كلّه وصف للكتاب المكنون؛ وإلّا لو حُملت

النعوت علي مرتبة واحدة من وجود القرآن وهو ظاهر التنزيل لتناقض الوصفان، فكيف يكون فيه متشابه ويكون مبيناً كلّه وتبياناً لكلّ شي ء؟

ومنها: وصفه بالكنّ والمجد، كقوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «3»

، وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «4»

، فوصف الكرامة قريب من وصف المجد، ووصف المكنون قريب من وصف المحفوظ، ومعني اللوح قريب من الكتاب.

ومن ثمّ وصف أيضاً «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «5»

أي لا يصل إليه إلّامن طهّره اللَّه، لا المتطهّر بالوضوء والغسل. ومن ثمّ وصف أيضاً بتنزيل من ربّ العالمين أي له وجود علوي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 370

الثقل الأكبر هو القرآن الناطق: … ص: 370

إذا تبينت الأُمور الثلاثة المتقدّمة من أنّ حقيقة القرآن هي روح القدس وتلك الحقيقة هي عين ذواتهم عليهم السلام، وأنّ للقرآن مدارج ودرجات، وأنّ المصحف هو أنزل درجات، فهو القرآن النازل وهو تنزيل القرآن، وأمّا الدرجات العليا فهي حقيقة القرآن وهي أكثر عظمة وقدسية وبهاءً وسموّاً، وأنّ تلك الحقائق هي الثقل الأكبر، إذ كيف يكون الوجود النازل وهو المصحف أكبر من أُمّ الكتاب ومن الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء، ومن اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلّاالمطهرون.

وتلك الحقائق الغيبية التي هي روح القدس مرتبطة وملتحمة مع أرواح الأئمّة عليهم السلام حقيقةً لا تنزيلًا واعتباراً، فالارتباط الحي الحيوي بروح القدس هو ذات الإمام عليه السلام، فالثقل الباقي بعد النبيّ صلي الله عليه و آله الأكبر لا محالة يكون الإمام والمصحف هو الأصغر، وعلي ذلك جملة من الشواهد:

الأوّل: ما ورد بنحو مستفيض ومتواتر أنّهم عليهم السلام القرآن الناطق والمصحف هو القرآن الصامت، ولا ريب أنّ القرآن الناطق هو الثقل الأكبر؛ إذ الناطق أعظم شرافة من الصامت، بل أنّ ملحمة صفّين

الكبري تُسطّر ملحمة عقائدية للأئمّة أنّ القرآن الناطق هو عليّ عليه السلام، وأنّ المصحف قرآن صامت.

كما أنّ تلك الروايات المستفيضة في كونهم القرآن الناطق دلالة واضحة علي هيمنة حجّيتهم علي حجّية المصحف الشريف، أي حجّية ذواتهم الناطقة لا كلامهم المروي في الكتب الذي هو إمام صامت.

وفي الكافي روي فيما هو كالموثق عن مسعدة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه ان فيه علم ما مضي وعلم ما يأتي إلي يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 371

تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم» «1».

الثاني: ما رواه الشريف الرضي في كتابه خصائص الأئمّة بسند صحيح عن أبي موسي الضرير البجلي وهو عيسي ابن المستفاد وهو وإن ضُعّف من النجاشي إلّا أنّه مستند في ذلك إلي تضعيف ابن الغضائري المتسرّع، والحال أنّ مضامين رواياته عالية المعارف. عن أبي الحسن عليه السلام في خطبة الرسول صلي الله عليه و آله التي خطبها في مرضه، قال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الأنس والجنّ، ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا وأنّي قد خلّفت فيكم كتاب اللَّه فيه النور والهدي والبيان لما فرض اللَّه تبارك وتعالي من شي ء حجّة اللَّه عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدي وضياءه وهو عليّ بن أبي طالب، ألا وهو حبل اللَّه «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَي شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2».

أيّها الناس، هذا

عليّ، من أحبّه وتولّاه اليوم وبعد اليوم فقد أوفي بما عاهد عليه اللَّه، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمي لا حجّة له عند اللَّه..

وكلّ سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل، القرآن إمام هادٍ، وله قائد يهدي به ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام» «3».

ودلالة الرواية علي أنّهم الثقل الأكبر في مواضع:

منها: وصف النبيّ صلي الله عليه و آله لعليّ عليه السلام بأنّه العلم الأكبر، علم الدين في مقابل المصحف الشريف، مع تكراره صلي الله عليه و آله للأوصاف التي ذكرها لنعت القرآن كأوصاف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 372

لعليّ أيضاً.

ومنها: تخصيصه صلي الله عليه و آله حبل اللَّه بعليّ مع أنّ المصحف الشريف حبل اللَّه، كما في الأحاديث الأُخري إلّاأنّ هذا التخصيص في هذه الرواية للتدليل علي أنّه الحبل الأكبر.

ومنها: وصفه الكتاب بأنّه حجّة اللَّه علي الناس وحجّة الرسول وحجّة الوصيّ، فجعل المصحف الشريف حجّة لما هو مقام أعظم وهو مقام اللَّه ورسوله ووليه.

ومنها: وصف عليّ عليه السلام بأنّه قائد للقرآن وأنّه الهادي به، مع أنّ القرآن إمام وهاد، فجُعلت القيمومة لعليّ علي المصحف.

الثالث: إنّ المقابلة ليست بين كلام اللَّه تعالي وكلام المعصوم؛ إذ لا ريب أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق، بل هي بين كلامَي الخالق، أي الكلام النازل وهو تنزيل الكتاب وكلامه تعالي في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب.

ولك أن تقول: إنّ المقارنة ليست بين المصحف وكتب الحديث وروايات السنّة النبويّة وسنّة المعصومين؛ إذ لا ريب في عظمة المصحف علي كتب الحديث فالحديث يُعرض علي الكتاب، وإن كان متشابه المصحف يُعرض علي محكمات كلّ من الكتاب والسنّة، فمتشابه السنّة يُعرض علي

محكمات الكتاب والسنّة، وكذلك الحال في متشابهات العقل في القضايا النظرية تُعرض علي محكمات الكتاب والسنّة وبديهيات العقل.

فليس المقارنة بين الكتاب والمصحف العزيز وكتاب الحديث، وإنّما المقارنة هي بين المصحف وذات الإمام المعصوم نفسه عليه السلام، وقد وصف المصحف العزيز بأنّه القرآن الصامت أي الذي لا ينطق بنفسه في مقام التطبيق وتفاصيل الوقائع ولا متشابه الأُمور، بخلاف ذات المعصوم فإنّها وصفت بالقرآن الناطق؛ لأن ذات

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 373

المعصوم تلتحم بذات الكتاب وأُمّ الكتاب والكتاب المبين.

فدرجات القرآن العليا التي هي جزء ذات المعصوم قرآن ينطق، فيرفع المتشابه في الأُمور، ويكون تلاوة للكتاب حقّ تلاوته، أي يتلو الآية ويطبّقها وينزل تطبيقها في حقّ المورد التي يجب أن تطبّق فيه.

وكذلك الحال في المقارنة بين ذات الإمام وكتب الحديث، فإنّ ذات الإمام إمام ناطق وكتب الحديث إمام صامت، ومن ثمّ لا يُستغني بتراث حديث النبيّ وأهل بيته عليهم السلام عن وجود الإمام المهدي (عج).

وبهذا يتّضح أنّ المقارنة ليس بين كلام اللَّه وكلام المعصوم، بل المقارنة بين كلامَي اللَّه، فإنّ ذات المعصوم هو كلام اللَّه حقيقة، ألا تري الإشارة في قوله تعالي:

«إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ..» «2».

فأطلق علي عيسي عليه السلام أنّه كلمة اللَّه. وأيضاً لاحظ التعبير في قوله تعالي لزكريا:

«أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «3»

، أي مصدّقاً بعيسي بن مريم، والتعبير في قوله تعالي في شأن مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ» «4»

، فقوبل هنا بين الكلمات والكتب.

رابعاً: قد يُعترض علي جعل أهل البيت الثقل الأكبر في مقابل المصحف الكريم، بأنّه مخالف للحديث النبويّ المستفيض وهو الوصية

بالتمسّك بالثقلين، فإنّ الحديث وإن كان متواتراً إلّاأنّ ما ورد فيه بلفظ الأكبر والأصغر هو في جلّ الطرق لا كلّها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 374

منها: ما رواه الشيخ المفيد في المجالس بسنده عن أبي جعفر عليه السلام، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين.. سببٌ طرفه بيد اللَّه وطرف بأيديكم تعملون فيه.. ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي. ثمّ قال: وأيم اللَّه إنّي لأقول لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجي عندي من كثير منكم» «1».

وروي في البحار أيضاً عن تفسير القمّي وغيره قول النبيّ صلي الله عليه و آله: «أما وأنّي سائلكم عن الثقلين كتاب اللَّه الثقل الأكبر، طرفٌ بيد اللَّه وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به» «2».

وروي أيضاً في البحار عن تفسير العياشي: «قال صلي الله عليه و آله: الثقل الأكبر كتاب اللَّه سبب بيد اللَّه وسبب بأيديكم فتمسّكوا به لن تهلكوا أو تضلّوا، والآخر عترتي، وأنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض» «3».

وروي في البحار أيضاً عن كتاب النشر والطي، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر كتاب اللَّه عزّوجلّ طرفٌ بيد اللَّه تعالي وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض، كاصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطي- فتفضل هذه علي هذه» «4».

وروي في بصائر الدرجات عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: «الثقل الأكبر كتاب اللَّه سببٌ طرفه بيد اللَّه وسببٌ طرفه بأيديكم» «5».

وروي في الخصال عنه صلي الله عليه

و آله قوله: «أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّوجلّ سببٌ ممدود

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 375

من اللَّه ومنّي في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضي وما بقي إلي أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو عليّ بن أبي طالب وعترته، وأنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض» «1».

وتوضيح دفع الاعتراض:

أوّلًا: إنّ كلّ هذه الروايات قد وصفت الكتاب أو القرآن بالثقل الأكبر، فلم تأت بلفظ المصحف والكتاب، القرآن كما يطلق علي المصحف يطلق علي أُمّ الكتاب وعلي الكتاب المبين وعلي اللوح المحفوظ وعلي روح القدس، كما تقدّم ذلك مفصّلًا في استعمالات آيات السور والاستعمال الروائي، فالكتاب أو القرآن ذو درجات ومقامات متعدّدة.

ثانياً: القرينة علي إرادة تلك المقامات العالية من لفظ الكتاب والقرآن في طرق حديث الثقلين الموصوف بالثقل الأكبر، وأنّه ليس المراد به مجرّد المصحف الشريف، وصف صلي الله عليه و آله القرآن بأنّه سببٌ أحد طرفيه بيد اللَّه والطرف الآخر بيد الناس، ومثله توصيفه بأنّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض، ممّا يدلّل علي أنّ الموصوف بالثقل الأكبر هو الدرجات الغيبية، كروح القدس وأُمّ الكتاب، وهي الطرف الذي بيد اللَّه، فتكرار هذا الوصف بأنّ له طرفان تأكيد علي كون أنّ وصف الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

ثالثاً: إنّه ورد في عدّة طرق من ألفاظ الحديث الشريف أنّهما لن يفترقا كاصبعي هاتين وجمع صلي الله عليه و آله بين سبابتيه، وليس كهاتين وجمع صلي الله عليه و آله بين سبابته والوسطي، وعلّل صلي الله عليه و آله ذلك لئلّا يفضل أحدهما علي الآخر ممّا يقضي بالتساوي، وأنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 376

رابعاً:

إنّه قد ورد في ألفاظ الحديث وصف مجموع الثقلين بأنّه حبل اللَّه الممدود بينه وبين خلقه، ممّا يقضي بأنّ مجموع الثقلين هما حبل واحد باطنهما متّحد كحبل نوري واحد.

وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لحقيقة ليلة القدر وإنزال روح القدس علي العترة المطهّرة وتأييد أرواحهم به، كما في قوله تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «1»

، وغيرها من الآيات.

ففي ما رواه النعماني في الغيبة من قوله صلي الله عليه و آله: «ألا وأنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل اللَّه ممدود بينكم وبين اللَّه عزّوجلّ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، سببٌ منه بيد اللَّه وسببٌ بأيديكم، إنّ اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض كاصبعي هاتين- وجمع بين سبابتيه- ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطي فتفضل هذه علي هذه» «2»

وصفٌ في لفظ هذا الطريق لكلٍّ من الثقلين بأنّهما حبل اللَّه الممدود، كما وصف صلي الله عليه و آله أنّ كلّاً من الثقلين طرف منه بيد اللَّه وطرف منه بيد الناس، كما أنّه صلي الله عليه و آله قرنهما بجمع السبابتين لا بجمع السبابة والوسطي؛ لئلّا تفضل هذه علي هذه.

فكلّ ذلك يؤكّد أنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الغيبي في كلّ من المصحف والعترة ممّا ينتهي إلي يد اللَّه وقدرته، ويزيدك وضوحاً في هذا المعني أنّه قد ورد مستفيضاً وصف عليّ والعترة بأنّهم حبل اللَّه، نظير ما رواه النعماني أيضاً وبسنده عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: «كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذات يوم جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من

أهل الجنّة يسأل عمّا يعني. فطلع رجل طوال يشبه برجال مضر، فتقدّم وسلم علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 377

سمعت اللَّه عزّوجلّ صلي الله عليه و آله يقول فيما أنزل: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» «1»

، فما هذا الحبل الذي أمرنا اللَّه بالاعتصام به وأن لا نتفرّق عنه؟ فأطرق رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ملياً ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلي عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال: هذا حبل اللَّه الذي من تمسّك به عُصم في دنياه ولن يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلي عليّ عليه السلام فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل اللَّه وحبل رسوله، ثمّ قام فولّي وخرج» «2»

.وقد عقد النعماني باباً خاصّاً «3» في ذلك، كما روي غيره من المحدّثين من الخاصّة والعامّة مثل ذلك. «4»

وهذه الأحاديث المستفيضة أو المتواترة شاهدة علي أنّ وصف الحبل في حديث الثقلين هو لمجموع الثقلين، والحبل كناية أنّ الثقلين لهما امتداد ممدود من عند اللَّه في النشأة الغيبية إلي أن يصل ممتدّاً إلي ما هو ظاهر بين يدي الناس وهو المصحف والعترة، كما أنّ توصيف جملة من الأحاديث في الثقل الأصغر كالذي رواه في العدد القوية من قوله صلي الله عليه و آله: «معاشر الناس، أنّ عليّاً والطيبين من ولده هو الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر» «5».

ومثل ما رواه ابن طاوس في اليقين عن عليّ عليه السلام قوله: «يا ابن عبّاس، ويلٌ لمن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عنّي عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله صغيراً لم يكتب عليّ صلاة،

وهم عبدة الأوثان وعصاة الرحمن ولهم يوقد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 378

النيران؟! فلمّا قرب إصعار الخدود واتعاس الجدود أسلموا كرهاً وأبطنوا غير ما أظهروا؛ طمعاً في أن يطفئوا نور اللَّه بأفواههم، وتربّصوا انقضاء أمر رسول اللَّه وفناء مدّته، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ومشورتهم في دار ندوتهم قال اللَّه عزّوجلّ: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «1»

و: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «2».

ولولا اتّقائي علي الثقل الأصغر أن يُبيد فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل اللَّه المتين وحصنه الأمين ولد رسول ربّ العالمين …» الحديث «3».

وروي ابن طاوس في التحصين بسنده.. قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا معاشر الناس، أمرني جبرئيل عليه السلام عن اللَّه تعالي.. أن أعلمكم أنّ القرآن الثقل الأكبر، وأنّ وصييّ هذا وابناي ومن خلفهم من أصلابهم حاملًا وصاياهم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر، ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر، كلّ واحد منهم ملازم للآخر..» «4».

وأخرج في البحار عن … بسنده عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن النبيّ صلي الله عليه و آله في حال مرضه، قال: «… أصحاب الكساء الخمسة، أنا سيدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون يسعد من اتّبعهم … اسودّت وجوه قوم وردوا ظماء مظمّئين إلي نار جهنّم، مزّقوا الثقل الأوّل الأعظم وأخّروا الثقل الأصغر، حسابهم علي اللَّه» «5».

وما روي المجلسي في البحار «… قال أمير المؤمنين: يا كميل نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر وقد أسمعهم رسول اللَّه..» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 379

وكذلك روي المجلسي في البحار: «ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم الإيمان؟»

«1».

وهذا النمط من ألفاظ حديث الثقلين هو الآخر فيه جملة من القرائن الدالّة علي أنّ نعت الأكبر أو الأعظم هو ليس مقتصر علي المصحف الشريف، بل هو نعت للكتاب والقرآن، وهو اسمان كما تقدّم- صادقان في الدرجة الأولي علي الوجود الغيبي للقرآن، وهو أُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، ومن مراتبه النازلة المصحف الشريف، وهذه المراتب العالية كما هي متنزّلة في ألفاظ المصحف الشريف بنحو الوجود اللفظي وفي معانيه بطور عالم المعاني، فهو متنزّل أيضاً أي روح القدس- بحقيقته ووجود التكويني لا الاعتباري علي العترة كما تقدّم مبسوطاً في دلالة الآيات والروايات من الفريقين علي ذلك.

وهذا التنزّل يجعل من العترة قرآناً ناطقاً، بينما المصحف الشريف قرآناً صامتاً يستنطق أي في مقام التطبيق للإرادات الإلهية في الموارد والحوادث الواقعة حين بعد حين إلي يوم القيامة، وهو أحد معاني التأويل، ويكون تطبيق العترة بنطق قرآني وإشراف من روح القدس الذي هو حقيقة القرآن، بخلاف المصحف الشريف فإنّ أخذ الأُمّة به لتطبيقه من دون العترة استنطاق منهم ظنّي، وتطبيق ظنّي أيضاً.

فنعت الأكبر صفة للحبل الممدود من اللَّه، طرفه بيده وتنزّله منشعب إلي المصحف والعترة الطاهرة. ومن القرائن التي تقدّمت من الروايات أيضاً أنّ أمير المؤمنين مع وصفه للعترة بالثقل الأصغر إلّاأنّه وصفهم أيضاً بشجرة العلم وحبل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 380

اللَّه المتين، وهو تأكيد علي أنّ التسمية بالثقل الأصغر هو في مقابل الكتاب في درجاته العالية، كأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ وروح القدس، ولأجل تنزّله عليهم وراثةً عن رسول اللَّه وصفوا بأوصاف الثقل الأكبر، وهو كونهم حبل اللَّه المتين، مع أنّ الحبل ذو طرفين كما مرّ. وكذلك وصفهم بشجرة العلم فإنّه للدلالة علي الامتداد من الأرض إلي سماء

الغيب، فالنعت بالأصغر بلحاظ أنّهم أوعية لنزول القرآن، وهم قرآن ناطق بلحاظ أنّ النازل عليهم هو الأكبر.

ومن القرائن أيضاً: أنّ الثقل الأوّل الأعظم الذي مزّق ليس المراد منه مجرّد المصحف الشريف، إنّما يُراد منه عدم العمل بالكتاب، وقد تقدّم أنّ التطبيق الوحياني للكتاب إنّما يحصل بتوسّط العترة بتنزّل روح القدس. نعم، يبقي لتطبيق المصحف بحدود دائرة المحكمات في حال كون الموارد والحوادث بيّنة الوجه أنّه تطبيق يقيني.

روي العياشي عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلي الله عليه و آله في كتابه، ذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «1»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 381

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله

عليه و آله، ويستحون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلي الله عليه و آله.

والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا. لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم، وموسي نبيّ اللَّه يوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما علمناه وما ورثناه عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1».

فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2»

، وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه، فكذلك واللَّه يا إسحاق بن عمّار حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون واللَّه علمنا، لا يقبلوه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه

ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 382

موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ» «1».

يشير الإمام عليه السلام في هذه الرواية إلي أنّ العلم بالكتاب المبين ليس هو مجرّد العلم بالمصحف الشريف كي يظنّ من ألمّ بالمصحف الشريف أنّه قد استغني عن علم أهل البيت عليهم السلام، مع أنّ الإحاطة بكلّ المصحف ومحتملاته وتناسبات الآيات مجموعها ضمن منظومة مترامية لا تقف عند حدٍّ مفاداً وعدداً.

وبعبارة أُخري: أنّه وصف القرآن في أُمّ الكتاب وفي اللوح المحفوظ والكتاب المبين وروح القدس بأوصافٍ تختلف عن أوصاف المصحف الشريف، ومن ذلك يتبيّن أنّ نعت الأكبرية للثقل إنّما هي بلحاظ الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، لا بلحاظ مجرّد المصحف الشريف.

ومن الواضح أنّه لا سبيل للناس في الوصول إلي ما في الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ إلّاعن طريق أهل البيت الذين يحيطون بذلك ويمسّونه، لا الاقتصار علي مجرّد المصحف الشريف، وقد ذكر في المصحف الشريف أوصاف الكتاب المبين كما ذكر نعت من يحيط به علماً.

أمّا النعت الأوّل كقوله تعالي: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

، ممّا يدلّ علي إحاطة الكتاب بكلّ شي ء، وهذا وصف القرآن بالكتاب المبين. وكذلك قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 383

السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «1».

وقوله تعالي:

«يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، وقوله تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «5»

، وأثر التصدع إنّما هو نعت لذلك الوجود من القرآن الكريم، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» «6»

، فنعت قدرة تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتي وصف للقرآن بلحاظ ذلك الوجود، ومن الواضح أنّ نعت الأكبر مناسب وأنسب لهذا المقام من القرآن، وأنّ المصحف الشريف والعترة الطاهرة هما السبب الذي بيد الناس من الحبل المتين الممدود، والطرف الآخر من هذا الحبل الذي بيد اللَّه هو أُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، والنعت بالأكبر هو بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه، وبالأصغر الطرف الذي بيد الناس، ومن المعلوم تنزّل هذا الأكبر بنحوٍ ينطق في الحوادث، ويكون نزولًا وتنزيلًا لكلّ مورد وحدث بنحو وحياني لدني لا يحتمل الخطأ والزلل، إنّما هو بتوسّط العترة، وإن كانت محكمات المصحف باقية علي وصف أنّها تنزّل لأُمّ الكتاب.

أمّا النعت الثاني وهو ورود القرآن بنعت من يحيط بأُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 384

مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، والمطهّرون الذين شهد لهم القرآن بالطهارة وهم أهل آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

، وعرّفهم تعالي في آية أُخري حيث قال:

«بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «3».

وهذه الآية تفسّر

قوله تعالي المتقدّم: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، حيث إنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ الكتاب بجملته آيات بينات في صدورهم، مع أنّ المصحف الشريف نعت بأنّ منه آيات محكمات وأُخر متشابهات، بينما وصف الكتاب الذي في صدورهم بأنّه بتمامه آيات بينات.

وروي الكليني بسند معتبر عن الحسن بن العبّاس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: بينا أبي عليه السلام يطوف بالكعبة إذ رجل معتجر قد قيض له».

ثمّ ذكر مسائلة إلياس النبيّ للإمام الباقر عليه السلام عن حقيقة علم سيد الأنبياء وعلم أوصياءه، وحقيقة العلم المتنزّل ليلة القدر من أُمّ الكتاب والكتاب المبين، وأنّه يتنزّل علي الوصيّ حجّة اللَّه في أرضه، حيث قال الباقر عليه السلام: «أبي اللَّه عزّوجلّ بعد محمّد صلي الله عليه و آله أن يُترك العباد ولا حجّة عليهم، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ثمّ وقف فقال:ها هنا يا ابن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 385

رسول اللَّه بابٌ غامضٌ، أرأيت إن قالوا: حجّة اللَّه القرآن؟ أي المصحف قال: إذن أقول لهم إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهي، ولكن للقرآن أهلٌ يأمرون وينهون، وأقول: قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنّة والحكم الذي ليس فيه اختلاف وليست في القرآن- أي المصحف- أبي اللَّه لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها، فقال:ها هنا تفلجون يا ابن رسول اللَّه الفتنة أن تظهر في الأرض … أشهد أنّ اللَّه عزّ ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة أو في أنفسهم من الدين أو غيره فوضع القرآن دليلًا قال فقال الرجل هل تدري يا ابن رسول اللَّه

دليل ما هو قال أبو جعفر عليه السلام نعم فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم فقال أبي اللَّه أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو في ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة قال فقال الرجل أما في هذا الباب فقد فلجتهم بحجة الا أن يفتري خصمكم علي اللَّه فيقول ليس للَّه جلّ ذكره حجة» «1».

فبين عليه السلام أنّ حجّية المعصوم الناطق مهيمنة رتبةً علي حجّية المصحف.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 387

علي مَنْ يتنزّل الروح والملائكة في ليلة القدر؟ … ص: 387

اشارة

لا ريب أنّ ليلة القدر كانت تتنزّل علي خاتم الأنبياء، كما هو نصّ القرآن الكريم في قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «1»

، أي أنزلنا القرآن، وكذا سورة الدخان من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

، وقوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «3»

، وهو النزول لجملة القرآن وحقيقته كما تقدّم بيانه، والذي هو الروح النازل ليلة القدر روح القدس، كما أنّه بمقتضي روايات الفريقين التي مرّ استعراضها كانت تتنزّل علي الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام إلي نبيّنا صلي الله عليه و آله، وهو مقتضي الأدلّة العقلية، حيث إنّ عالم ولوح القضاء والقدر وإمضائه في عالم الدنيا ونشأة الأرض وعالم المادّة الغليظة لابدّ أن يطوي هذه المراحل، فهذه السلسلة التكوينية من العوالم كما هو محرّر في مباحث الحكمة الإلهية لا يختصّ بزمان دون آخر، بل هو من السنن الإلهية في عوالم الخلقة، فمقتضاها الاستمرار من بدء الخلقة البشرية إلي يوم القيامة، فهذا الدليل العقلي يقضي باستمرار وجود من تتنزّل عليه ليلة القدر إلي يوم القيامة بعد سيد الأنبياء، وهذا المعني هو الذي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

388

نشاهده بوضوح من دلالة النصّ والسور القرآنية العديدة كحقيقة قرآنية بيّنة، وكذلك في روايات الفريقين كما مرّت الإشارة إلي ذلك.

أمّا الآيات القرآنية الدالّة علي الاستمرار، فمضافاً إلي الضرورة بين المسلمين علي استمرار ليلة القدر، يقع الكلام في معرفة من تتنزّل ليلة القدر عليه بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ فهنا جانبان من البحث:

الأوّل: في استمرار ليلة القدر.

الثاني: علي من تتنزّل ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟

والآيات تفيد كلا الجانبين، كقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «1»

، فالتعبير بتنزّل- جملة فعلية بالفعل المضارع الدالّة علي الاستمرار، وكذا قوله في سورة الدخان: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

، بنفس التقريب المتقدّم، فإنّه قد وصف الليلة المباركة التي يتنزّل فيها بالجملة الفعلية بالفعل المضارع، وإنّ شأن هذه الليلة علي الدوام أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، وأن يُرسل فيها الروح إلي من يصطفيه اللَّه من عباده في الأرض.

نزول الروح وحيٌ رباني: … ص: 388

وأمّا الثاني: كما أنّ نزول الروح والملائكة من كلّ أمر أي بكلّ أمر يقتضي وجود من تُرسل إليه تقادير الأُمور، إذ لا يعقل إرسال من دون مرسل إليه بعد تصريح سورة الدخان وغيرها بإنّه إرسال كما هو إنزال، وتصريحها بالمرسل به

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 389

والمرسل، فلابدّ من وجود مرسل إليه، مع أنّ الآيات الأُخري صرّحت بالمرسل إليه.

وبعبارة أُخري: إنّ نزول الروح في استعمال القرآن هو نمط من الوحي الإلهي في القرآن الكريم ومصطلح قرآني دالّ علي الوحي، وإن كانت أقسام الوحي الإلهي في القرآن الكريم غير منحصرة

بالوحيّ النبوي، كما في مورد مريم وأُمّ موسي وذي القرنين وطالوت وصاحب موسي الخضر- وغيرها من الموارد، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «1»

، فلم يخصّص التكليم الإلهي بالأنبياء والرُسل، بل عمّم إلي المصطفَين والحجج من البشر، كما هو الحال في مريم وأُمّ موسي، وقد عبّر عن الوحي بنزول الروح في قوله تعالي:

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» «2»

، وقوله تعالي: «نَزَلَ بِهِ أَلرُّوحُ أَلْأَمِينُ* عَلَي قَلْبِكَ» «3»

، وإن كانت هذه الآية تشير إلي النزول الثاني للقرآن وهو تنزيل المعاني والألفاظ، لكنّه تعبير عن الوحي، وكذا قوله تعالي: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَي قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «4»

، فنزول الروح اصطلاح قرآني للوحي وإن لم يكن وحياً نبوياً.

وهذا يعني أنّ في ليلة القدر من كلّ عام يقع هذا الوحي الإلهي والنزول، ومن ثمّ عبّر تعالي في سورة الدخان: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «5»

بالإرسال، أي أنّ هذا الروح الأمري مرسل من قبله تعالي إلي مُرسَل إليه من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 390

البشر، كما في ذيل آية الشوري من قوله تعالي: «أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ» «1»

، فسورة الدخان أيضاً تدلّ علي أنّ في ليلة القدر هناك وحي إلهي عبّرت عنه بالقول: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»، وكذلك في قوله تعالي في سورة النحل: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «2»

،

فصرّحت الآية الكريمة بأنّ نزول الروح هو علي من يشاء اللَّه أي من يصطفيه لذلك من العباد من دون التقييد بالنبوّة.

فهذا النزول للروح هو وحي وهو نازل علي من يشاء ويصطفيه من عباده، وكذا قوله تعالي في سورة غافر: «ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3»

، وإلقاء الروح الأمري عبارة عن نزوله وإرساله، نظير التعبير بقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «4»

وجعل في الآية الملقي إليه الروح هو من يشاء ويصطفي من عباده من دون التقييد بعنوان النبوّة والرسالة والاصطفاء، فقد تعلّق بمريم، كما تعلّق بطالوت الإمام غير النبيّ في سورة البقرة في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ» «5».

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «6»

الضمير في (جعلناه نوراً) الظاهر عوده إلي الروح الأمري؛ إذ لو كان يعود إلي الروح الذي هو مبتدء الكلام في الآية ويكون المراد أنّ الروح الأمري يجعله اللَّه نوراً ويوحي ويهدي به من يشاء من عباده ويصطفيهم لذلك فيحصل لهم العلم ودراية الكتاب والإيمان.

والحاصل: أنّ تعميمه تعالي إلي من يوحي إليه الروح الأمري غير النبيّ صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 391

يدلّ علي عموم ظرف الإيحاء للحجج المصطفين من العباد الإيحاء والوحي به، وقد قرّر في روايات الفريقين كما هو ظاهر سورة القدر والدخان أنّ هذا الوحي غير مرتبط بوحي النبوّة والرسالة، وإنّما هو وحي إلهي مرتبط بتقدير الأُمور وقضائها وإبرامها الذي هو من تأويل الكتاب، وقد عبّر في سورة النحل بأنّ هذا النزول والوحي الإلهي غير النبويّ هو علي من يشاء من

عباده، فعبّر بلفظ عباده ولم يؤت بلفظ أنبيائه أو رسله؛ للدلالة علي العموم عموم المصطفَين الذين اختارتهم المشيئة الإلهية لذلك.

ومقتضي ذلك وجود ثلّة في هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، وقد أُشير إليهم في سورة الواقعة والأحزاب حيث قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، فأخبر أنّ القرآن الذي في الكنّ محفوظ كما في سورة البروج من قوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فأخبر تعالي أنّ القرآن الذي في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون لا يمسّه ولا يصل إليه إلّاالمطهّرون، لا المتطهّرون بالوضوء والغسل بل المطهّرون من قبله تعالي بنصّ آية التطهير في سورة الأحزاب: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3».

فيتبيّن من ضمّ الآيات بعضها إلي بعض أنّ من يتنزّل عليه الروح الأمري من يشاء اللَّه ويصطفيه من عباده كما في سورة النحل وهم أهل آية التطهير، فإنّهم يمسّون الكتاب في ليلة القدر في الليلة المباركة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 392

نسب النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته هو سورة القدر: … ص: 392

حيث يتبيّن ممّا مضي أنّ روح القدس الذي هو القرآن الكريم كما هو ملتحم بروح النبيّ صلي الله عليه و آله كذلك ملتحم بروح أوصياء النبيّ صلي الله عليه و آله من بعده واحد بعد آخر، حيث يتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، بل أنّ ظاهر سورة النحل عدم اختصاص التنزّل عليهم بليلة القدر، وقد أشارت إلي ذلك جملة من الروايات عنهم عليهم السلام، فهذا النزول والوحي بهذا الروح لهم هو المعرّف لهويتهم ونسبهم الروحي لشخصية ذواتهم ونسب مقام ذاتهم عليهم السلام.

في صحيحة ابن أُذينة التي رواها الكافي عن أبي

عبداللَّه عليه السلام في صلاة النبيّ صلي الله عليه و آله في السماء في حديث الإسراء، قال عليه السلام: «ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه: إقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالي: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* أَللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» «1»

، وهذا في الركعة الأُولي … ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه إقرأ بالحمد للَّه، فقرأها مثل ما قرأ أوّلًا، ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه إقرأ «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلي يوم القيامة» «2»

، وروي مثله في علل الشرائع، وغيرها من الروايات.

فهذا التعريف لهوية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام هو نظير تعريف الإنسان بالنطق الذي هو الروح العاقل، أي تمييز وتعريف الشخص بالمراتب العالية الوجودية من ذاته، ونظير ذلك تعريف القرآن النبيّ عيسي عليه السلام بأنّه كلمة اللَّه وأنّه آية، لكن لا يخفي أنّ في آيات خلقة النور في سورة النور و روايات خلق النور يظهر أن أُصول ذواتهم خلقا ما هو أرفع من روح القدس.

وفي رواية بصائر الدرجات عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 393

عبداللَّه عليه السلام في حديث عن ولادة الإمام عليه السلام وما يرافق ذلك من مراسم ملكوتية وأنّ الإمام عليه السلام يقول بعد ذلك: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1»

، فإذا قالها أعطاه العلم الأوّل والعلم الآخر، واستحقّ زيادة الروح في ليلة القدر «2».

وروي عن الحسن بن عبّاس بن حريش، قال: «قال أبوعبداللَّه عليه السلام: إنّ القلب الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر لعظيم الشأن. قلت: وكيف ذاك يا أبا

عبد اللَّه؟ قال: يُشق واللَّه بطن ذلك الرجل ثمّ يؤخذ ويكتب عليه بمداد النور ذلك العلم، ثمّ يكون القلب مصحفاً للبصر، ويكون الأذن واعيةً للبصر، ويكون اللسان مترجماً للأذن، إذا أراد ذلك الرجل علم شي ء نظر ببصره وقلبه فكأنّه ينظر في كتاب».. الحديث «3».

والمراد من شقّ البطن أي انفتاح نوافذ الروح، وقريب من ذلك ما روي في معاني الأخبار بسنده إلي الأصبغ بن نباتة، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا علي، أتدري ما معني ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول اللَّه، فقال: إنّ اللَّه تبارك وتعالي قدّر فيها ما هو كائن إلي يوم القيامة، وكان فيما قدّر عزّوجلّ ولايتك وولاية الأئمّة من ولدك إلي يوم القيامة» «4»

. وروي مثلها بإسناده المتّصل عن المفضّل بن عمر عنه عليه السلام.

فكون الروح النازل وهو روح القدس وهو أحد أرواحهم عليهم السلام يبيّن هوية ولايتهم والتي هي الكتاب المبين، وقد تقدّم نعوت الكتاب المبين وآثار القدرة والولاية التكوينية له، ووصفه بالمجد في سورة البروج والكرامة في سورة الواقعة، إشارة إلي آثار القدرة لحقيقة الكتاب التي هي روح القدس.

وفي صحيحة جابر الجعفي، قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام في حديث عن أصناف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 394

الخلق: «فالسابقون هم رسول اللَّه وخاصّة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزّوجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قدروا علي طاعة اللَّه، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللَّه عزّوجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون» «1».

وفي رواية أُخري لجابر عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «سألته عن علم العالم؟ فقال لي: يا جابر، إنّ

في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلي ما تحت الثري. ثمّ قال: يا جابر، إنّ هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلّاروح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب» «2».

وفي رواية المفضّل بن عمر عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره؟ فقال: يا مفضّل، إنّ اللَّه تبارك وتعالي جعل في النبيّ صلي الله عليه و آله خمسة أرواح: … وروح القدس فبه حمل النبوّة فإذا قُبض النبيّ صلي الله عليه و آله انتقل روح القدس فصار إلي الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يُري به» «3».

وهذه النعوت لروح القدس المذكورة فيهم وهو النازل عليهم ليلة القدر، بل وفي غيرها أيضاً كما هو مقتضي سورة النحل «4» وسورة غافر «5»، حيث لم يقيّد إنزاله بوقت خاصّ، وروح القدس النازل الملتحم بأرواحهم المتّصل بها كما هو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 395

معني الوحي في الحكمة والعلوم العقلية، قد عرّف وطوبق في سورة الدخان بالكتاب المبين: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1»

، فجُعل الكتاب المبين هو الروح النازل في ليلة القدر.

وقد تقدّم وصف الكتاب المبين بأنّه يُستطرّ فيه كلّ شي ء وكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة، وهو القرآن الكريم في الكتاب المكنون والقرآن المجيد في اللوح المحفوظ، وهذا معني قوله عليه السلام: «فبه حمل النبوة»، وقوله عليه السلام: «كان يُري

به»، أي ما في أقطار الأرض وما في عنان السماء وما دون العرش وما تحت الثري، وقوله عليه السلام: «فبه عرفوا الأشياء».

روح القدس وراثتهم عليه السلام للكتاب وعلوم النبيّ صلي الله عليه و آله: … ص: 395

فقوله عليه السلام في الرواية السابقة للمفضّل عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا قُبض النبيّ صلي الله عليه و آله انتقل روح القدس فصار إلي الإمام»، هو معني وراثتهم عليهم السلام للكتاب أي لحقيقة الكتاب الذي هو مكنون ولوح محفوظ، لا للمصحف الشريف الذي هو الوجود المنقوش للقرآن الكريم، فقوله تعالي: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» «2»

يشير إلي الوراثة التكوينية لحقيقة الكتاب بوجوده الوحياني في عالم الوحي، لا الكتاب بوجوده المنقوش في المصحف، من هنا فإنّ تخصيص الوراثة بالمصطفَين من العباد، فإنّ الإصطفاء هو الطهارة الروحية الخاصّة اللدنية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 396

التي يتأهّل بها المصطفون من العباد للوحي الإلهي الأعمّ من الوحي النبويّ وغيره، كما في تأهّل مريم لمحادثة الملائكة لها ووحي اللَّه لها مباشرة، كما في سورة آل عمران.

ومن ثمّ تري نسق التعبير والتركيب في الآية الكريمة علي نسق التعبير في سورة النحل: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «1»

، فالتعبير فيها علي من يشاء من عباده أي من يختار ويصطفي، فوراثة الكتاب نزول الروح وهي وحي حقيقة الكتاب، كما في سورة الشوري: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «2»

، وكذلك يتناغم التعبير بين كلّ من آية فاطر وآية النحل وآية الدخان وآية

غافر حيث ذكر مع نزول الكتاب المبين ونزول روح القدس في ليلة القدر وغيرها حصول الإنذار والإرسال، وقد أسند فعل الإنذار إلي غير الأنبياء وغير الأوصياء ممّن يجوز عليهم الخطأ في موارد من القرآن الكريم، كما في آية التفقّه في سورة البراءة «3»، فكيف يستبعد إطلاقه علي كلام الأوصياء.

فإرسال الروح وحصول الإنذار لا يختصّ بالوحي النبويّ، بل يعمّ الوحي غير النبويّ وراثة بعد الأنبياء، كما تعلّق البعث الإلهي بطالوت الإمام مع عدم كونه نبيّاً في قوله تعالي علي لسان نبيّ من بني إسرائيل: «قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «4».

وأمّا التعبير بالآية: «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ» «5»

فالضمير ليس عائد إلي الذين اصطفينا بل إلي عبادنا، أي أنّ عبادنا بعضٌ ظالم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 397

لنفسه وبعضٌ مقتصد وبعضٌ سابق بالخيرات، كما أنّ الذين اصطفيناهم بعضٌ من عبادنا، فلفظ (من) التي تكرّرت أربع مرّات في الآية بمعني بعض؛ وإلّا كيف يصطفي اللَّه الظالم لنفسه؟

ومنه يُعرف أنّ المراد من السابق بالخيرات هم الذين اصطُفوا من العباد، وأنّهم الأئمّة، وأنّ الإمامة وهي وراثة الكتاب هي الفضل الكبير، والتعبير بالسابق بالخيرات بإذن اللَّه يقرب من التعبير في سورة الأنبياء في قوله تعالي:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «1»

، فكما جعل في آية فاطر السبق بإذن اللَّه اصطفائي لدني، فكذلك في آية الأنبياء جعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمر اللَّه، وأنّ فعل الخيرات منهم بوحي تسديدي من اللَّه، وأنّ هذا الأمر ليس أمراً إنشائياً بل هو أمر تكويني الذي أُشير إليه في سورة النحل بقوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2».

وكذلك في سورة القدر

قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «3»

وكذلك في سورة الشوري قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «4»

، وهذا ممّا يشير أنّ روح القدس من عالم الأمر الملكوتي الابداعي.

وقد ذُكر عالم الأمر في قوله تعالي «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «6»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 398

وقوله تعالي: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «1»

، أي أنّه من عالم الإبداع لا الخلق التقديري، ومن ثمّ ورد أنّ تقدير السماوات والأرض أي عالم الملك والمادة أي ما يشمل عالم الدنيا وعالم البرزخ- كلّ ذلك قد قُدّر في ليلة القدر.

وقد مرّ في الروايات أنّ تقدير ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في مقامها التكويني قد قدّر في ليلة القدر، فقد روي الصدوق في معاني الأخبار بإسناده إلي المفضّل بن عمر، قال: «ذكر عند أبي عبد اللَّه عليه السلام إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال: ما أبين فضلها علي السور. قال: قلت: وأي شي ء فضلها؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها. قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها؟ قال: نعم، هي ليلة قدّرت فيها السماوات والأرض، وقدّرت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها».

ولا يخفي التعريض في كلامه عليه السلام بين تقدير السماوات والأرض وتقدير ولاية أمير المؤمنين من الناحية الكونية التكوينية، ودور روح القدس، وتناسب سجود الملائكة كلّهم أجمعين، أي طاعتهم لخليفة اللَّه في الأرض كما في سورة البقرة وغيرها من السور، سواء ملائكة الأرض أو ملائكة السماوات أو ملائكة الجنّة والنار.

وقد ورد أيضاً أنّ روح القدس أعظم خلقاً، ففي صحيح أبي بصير،

قال:

«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «2»

؟ قال: خلق من خلق اللَّه عزّوجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 399

وفي صحيحه الآخر قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» «1»

؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو مع الأئمّة وهو من الملكوت» «2».

وفي معتبر أسباط بن سالم عنه عليه السلام: «منذ أنزل اللَّه عزّوجلّ ذلك الروح علي محمّد صلي الله عليه و آله ما صعد إلي السماء وإنّه لفينا» «3».

وفي صحيح سعد الإسكافي، قال: «أتي رجلٌ أميرَ المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: جبرئيل عليه السلام من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرّر ذلك علي الرجل، فقال له: لقد قلتَ عظيماً من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول اللَّه تعالي لنبيّه صلي الله عليه و آله: «أَتَي أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «4»

، والروح غير الملائكة صلوات اللَّه عليهم» «5».

وحيث كانت ليلة القدر وراثة الكتاب بنزول روح القدس الذي هو حقيقة الكتاب، ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يا معشر الشيعة خاصموا بسورة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» تفلحوا؛ فواللَّه إنّها لحجّة اللَّه تبارك وتعالي علي الخلق بعد رسول اللَّه صلي

الله عليه و آله، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا ب «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «6»

، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «7».

ولا يخفي أنّ في كلامه عليه السلام محطّات للتدبير والغور، منها: وصفه لسورة القدر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 400

أنّها سيدة دينكم إي حقيقتها مرتبطة بإلامامة الالهية، وفيه إشارة لكون الامام الناطق ثقل أكبر مهيمن علي حجّته المصحف.

ومنها: قوله (وأنّها لغاية علمناه) أي أنّ عمده ما ورثوه من العلم عن النبيّ صلي الله عليه و آله هو بتوسّط روح القدس، لا الطرق السماعية والرواية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 401

حاضر المعرفة

الفصل الثامن: معتقدات الإمامة والمهدي (عج) … ص: 401

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 403

المقالة الاولي العلم اللدني والولاية الشريعة بحسب الظاهر وسنن النظام الكوني … ص: 403

العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة: … ص: 403

وقبل الخوض في ذلك يجدر الإلفات إلي النقاط التالية:

1- البحث يرتبط بصلة وثيقة بالفصول السابقة من الجزء الأوّل من كتاب الإمامة.

2- غالب البحث سيكون ذا طابع قرآني، وذلك بعد التنبّه إلي نكات الظهور بتوسّط روايات أهل البيت عليهم السلام.

3- تذكير بنقاط مستخلصة ممّا سبق:

أ- تعريف الإمامة: والذي تقدّم مفصّلًا في الفصل الثالث من الجزء الأوّل- باختصار: إنّ ما ذكره باقتضاب واختزال المتكلّمون- حتّي الشيعة منهم في تعريف الإمامة- موهم أنّ مقام الإمامة عبارة عن الزعامة والرئاسة الاعتبارية الاجتماعية فقط؛ لخلوّه من التنويه إلي ارتباط المعصوم بمقام الغيب، ومن ثمّ أوهم التعريف المزبور أنّ الإمام كأيّ عالم آخر، سوي أنّه في درجة متقدّمة، ممّا أوقع الكثير في شبهات حول الإمامة..

وذكرنا في الفصول السابقة المفهوم الذي اخترناه لمعني الإمامة، وأنّ ما ذكره المتكلّمون وبعض الحكماء من الإمامية في تعريف الإمامة لا يستوعب جميع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 404

جوانب الإمام. فالمتكلّمون اقتصروا علي الرئاسة الدينية والدنيوية، وهذا قصر للإمامة علي الزعامة السياسية والولاية التشريعية، بل إنّ البعض اقتصر علي حفظ الدين، ومن الواضح أنّ هذا التعريف وأمثاله أهمل الإشارة إلي مقام الإمام ومنبع علمه هل هو القناة الحسيّة أم أُخري غيبية يمتاز بها عن بقية البشر، وهذا الإهمال وقصر حقيقة الإمامة علي الشأن الدنيوي هو الذي أوقع كثير من المتأخّرين في العديد من الإشكالات التي لم يجدوا لها جواباً شافياً علي هذا التفسير للإمامة.

ومن هنا حدّدنا في الفصول السابقة الأركان والمحاور الأساسية التي تبتني عليها حقيقة الإمامة وماهيتها، وهي:

1- الهداية الإرائية: ويقصد بها التبليغ والتشريع وإراءة الطريق للمؤمنين، وهذه تعتمد علي أنّ للإمام علم لدني وقناة غيبية يستقي منها علومه، وهي ليست من سنخ

النبوّة، بل هي وحي بالمعني الأعمّ، كما ورد عنهم عليهم السلام في الزيارات ما مضمونه: «إنّ الإمامة سفارة إلهية».

2- الهداية الإيصالية: وهي حيثية ولائية مولوية وقدرة، وقد عرّفها العلّامة الطباطبائي في الميزان في ذيل آية «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ» «1»

، «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «2».

قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلي المنازل المعنوية الكمالية، وهاتان النقطتان من المحاور الأساسية في حقيقة الإمامة، وقد مثّلنا لهما بقوّة العقل النظري والعملي في الإنسان الصغير، وبمقتضي التطابق بين الإنسان الصغير والكبير يمكن معرفة كثير من خصائص الإمامة في مقام الهداية الإرائية والإيصالية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 405

فالهداية الإرائية تتمّ عبر قناة التبليغ، وعبر قناة الاتّصال …

والهداية الإيصالية للمعصوم تتمّ كما في قوّة العقل العملي «1» من دون إلجاء وإجبار، حيث يشوّق ويحثّ ويجذب من دون قهر لقوي الإنسان الأخري، فالهداية الإيصالية تتمّ من دون أن يكون هناك سلب للإرادة والاختيار.

3- إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يؤمّ، وهي تتضمّن خاصّية المتابعة من المأموم للإمام، وهي تتضمّن استمرارية السير والحركة الشعورية الدائمة، وعدم التوقّف والجمود، فلا يكون صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، بل هي والإيصالية.

4- لابدّ للسير والحركة من غاية، وبدون هذه الغاية لا تتحقّق ماهية الإمامة.

وكلّ هذا ممّا حدا بالمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة لدفع الإيهام في تعريف المتكلّمين بالإلفات إلي أنّ الإمامة سفارة إلهية..

ومن ثمّ ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنا سفير السفراء» «2»

، وكذا عبّر الإمام الهادي عليه السلام في زيارته لجدّه أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير: «يا أمين اللَّه في أرضه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 406

وسفيره في خلقه»، وفي زيارته عليه السلام ليلة المبعث ويومه أوردها المفيد وابن طاووس والشهيد: «وعيبة علم اللَّه وسفير اللَّه في خلقه»، وفي البحار:

«سفير السفراء»، وفي زيارة الإمام الحسين عليه السلام الرجبية: «السلام عليك يا سفير اللَّه وابن سفيره»، رواه المفيد وابن طاووس والشهيد.

فإنّها عبارة عن: الهداية الإرائية والإيصالية.

ومنبع الإرائية: الوحي والغيب، ولكنّه بالمعني الأعمّ، وليس علي حدّ النبوّة..

ومنبع الإيصالية: القدرة والولاية، كما ذكر ذلك الطباطبائي في ذيل آية: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» «1»

، و «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» «2»

، أنّه: قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلي المنازل المعنوية والكمالية..

علماً أنّه اقتصر علي هذا البعد في تعريفها، مع أنّ الصحيح أنّها هداية إرائية أيضاً؛ استناداً إلي مجموعة أدلّة سبقت الإشارة إليها.

وقال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية في تعريف الإمامة: الرئاسة المعنوية الكبري في الدين والدنيا المنبعثة عن كمال نفسه المقدّسة التي من شؤونها الروحانية وساطتها للفيض وكونها مجري الفيض النازل من سماء عالم الربوبية، وعليه ينطبق كمال الانطباق قولهم: «مجاري الأُمور بيد العلماء باللَّه» دون الفقيه الذي هو بما هو فقيه- عالم بأحكام اللَّه لا باللَّه «3».

وجعل قدس سره هذا التعريف من الرئاسة المعنوية، أي الروحية والتكوينية في قبال الرئاسة الاعتبارية المجعولة تشريعاً من اللَّه تعالي في أُمور الدنيا والدين، وأنّها من المناصب المجعولة الاعتبارية «4»، بخلاف المعني الأوّل، فإنّه من المعاني

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 407

التكوينية. وجعل التقابل بين هذين المعنيين نظير التقابل بين معني النبوّة، فإنّ المعني التكويني لها عبارة عن:

أوّلًا: إنّها من الصفات الواقعية ومرتبته عالية من الكمالات النفسانية، وهو تلقّي المعارف الإلهية والأحكام الدينية من المبادئ العالية بلا توسّط بشر، وصيرورة نفسه المقدّسة مجلي المعارف والأحكام معني بلوغها درجة النبوّة.

ثانياً: إنّها معني إعتباري من المناصب المجعولة، بمعني جعله مخبراً ومبلّغاً عن اللَّه تعالي وسفيراً تشريعاً- إلي خلقه «1».

هذا ويلاحظ علي تعريفه قدس سره إنّما جعله منشأ الرئاسة التكوينية، كمال

نفسه المقدّسة ووساطته للفيض علي النفوس والأرواح ومجاري الأُمور هو الأولي أن يجعل أصلًا في التعريف، وبجعل رئاسته التكوينية وقدرة تصرّفه في الخارج شأن من شؤون حقيقة الإمامة فضلًا عن الرئاسة الاعتبارية القانونية في الدين والدنيا، كما أشار هو قدس سره إلي خطأ جعل الرئاسة الاعتبارية هي الأصل في تعريف الإمامة. كما أنّ هناك فارقاً آخر بين الإمام المعصوم والفقيه مضافاً إلي ما ذكره من الفارق الأول هو أنّ الفقيه لا يحيط بأحكام اللَّه تعالي في اللوح المحفوظ بتمامها، كما أنّ علمه بأحكام اللَّه هو من وراء حجاب عالم دلالات الألفاظ وبتوسط تركيب الدلالة وتناسباتها، ومن ثمّ قد يصيب في تأليف الدلالة باستكشاف الواقع وقد يخطئ، بل في جملة من المواضع يغيب عنه شطر واسع من النصوص اللفظية، فهو لا يحيط بالأحكام الظاهرية فضلًا عن منظومة الأحكام الواقعية، بل قد يكون ما قد توصّل إليه حكماً تخيّلياً لا ظاهرياً كما نبّه علي ذلك علماء الأُصول في مبحث الأجزاء، إلي غير ذلك من الفوارق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 408

هذا وسيأتي في كلام البياضي في (الصراط المستقيم) وهو من علماء القرن التاسع ما يظهر منه التفطّن إلي هذه الجهات في تعريف الإمامة الإلهية.

وقد مثّلنا هاتين الهدايتين بالعقل النظري والعلمي، فالإمام هو العقل النظري للإنسان الكبير وعالم التكوين، وهو العقل العملي كذلك..

وكلّما تدبّرنا في خصوصيات العقلين نجدها في الإمام، بما في ذلك أنّهما لا يقهران الإرادة ولا يسلبان الاختيار، كذلك الإمام لا يقهر الإرادة ولا يسلب الاختيار، وإنما يُعلِّم ويشوّق فقط..

بل إنّ العقل مرتبط بالعلم الحصولي والإنسان يمتلك علماً آخر وهو العلم الحضوري، والذي ذكرت له مراتب تبدأ بالقلب فالسرّ والخفي والأخفي..

كذلك الإمام هو هادي في رتبة العلم الحضوري

أيضاً، علماً أنّ الهدايتين في هذه المرتبة تندّكان بوجود واحد بسيط..

وعندما نرجع إلي اللغة حيث إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يأمُ نلاحظ أنّ الإمامة في الوقت الذي تستبطن الخصوصيتين (الإراءة والإيصال)، تستبطن الحركة والسير والمتابعة للإمام نحو غاية ما عن شعور واختيار..

ومن ثمّ لم يكن صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، وصرف الإيصال كذلك؛ لأنّه سيكون لا عن شعور..

ب- البطون والتأويل في تعريف جديد: إنّ السائد في فهم البطون وتفسيره: أنّه التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر ومن خلال موازين الظهور..

إلّا أنّ الاتّجاه المعاصر أخذ ينحو منحيً آخر في فهم وتعريف البطون تبعاً للآيات وكثير من الروايات، وهو: المعني الذي لا يمكن للذهن العادي غير المعصوم الوصول إليه بنفسه عبر منصّة الظهور.. أي أنّ البطون هو قسم من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 409

الظهور لكن لا يهتدي بغير المعصوم إلي تأليف موازين اللفظ والدلالة من مختلف القرائن والمناسبات ونضد المقدّمات الدقيقة لتحصيل مفاده من منصّة الظهور الأوّلي.

وهو يعني أنّه ليس هناك باطن غير ظاهر، سوي أن استنطاقه من النصّ غير متاح لكلّ أحد، وإنّما هو خاصّ بالمعصوم..

وعلي ضوء هذا يفهم قول الصادق عليه السلام: «قد ولدني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأنا أعلم كتاب اللَّه وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلي يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلي كفي ان اللَّه يقول: «تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»» «2».

ويفهم حثّه عليه السلام أصحابه كما في موثق أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا حدّثتكم بشي ء فاسألوني من كتاب اللَّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله نهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللَّه أين هذا من كتاب اللَّه؟ قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» «3»

وقال: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» «4»

وقال: «لَاتَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» «5»

» الحديث «6».

وهذا طبيعي بعد أن كان مصحف الكتاب العزيز نسخة من لوح التكوين وتنزيلًا له..

فيوجد تعريفان للباطن:

أحدهما: هو الذي يعتبر من التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 410

الظاهر وموازينه، وهذا هو التعريف المشهور علي ألسنة الكثير من المحقّقين.

والثاني: هو نحو من الظهور الذي لا يمكن للأذهان العادية الوصول إليه إلّا عبر تعليم المعصوم، فهو ليس في قبال الظاهر، بل هو قسم من الظاهر، وهو غير ممتنع علي أحد بل هو مفتوح، إلّاأنّ الوصول إليه يتمّ عبر مناسبات وتأليف للمقدّمات الدقيقة العميقة التي لا تهتدي الأذهان العادية إلي الوصول إليها، وهذا لا يجعله خفياً بل يكون حاله حال علم الرياضيات الذي يعتمد علي الأوّليات البديهية ومع ذلك ما زالت ما لا تحصي من المسائل الرياضية متعسّرٌ علي الذهن العادي حلّها، وهو لا يخرجها عن حدود علم الرياضيات.

والذي نختاره هو المعني الثاني؛ لأنّا نراه أقرب إلي مسلك الأئمّة عليهم السلام، حيث كانوا يحثّون أصحابهم علي استنطاق القرآن الكريم بإرشادهم إلي أوجه الدلالة، وترغيبهم في السؤال عن مصدر الحكم، والإشارة إلي المناسبات المتعدّدة والقرائن التي تكون محفوفة بالآيات، وتجميع الآيات المتفرّقة بنحو برهاني، وما استدلال الإمام بالقرآن علي روايات الطينة إلّامن هذا القبيل. وبناءً علي هذا نقول:

أ- إنّ

روايات الأئمّة عليهم السلام في ذيل الآيات لا تكون أمراً مستقلّاً عن الآيات ومخالفة للظاهر، بل يجب اعتمادها كملاحق وتبصرات للأُصول القانونية ولأُسس المعارف، وهذا من الناحية العلمية له فوائد جمّة.

ب- إنّ التعامل مع الروايات الواردة في تفسير الآيات لا يكون علي أساس مجرّد التعبّد فقط، بل يكون علي أساس الإرشاد والإشارة أيضاً إلي كيفية سلوك موازين الظاهر، وإيجاد المناسبات للوصول إلي البطون. وهذا التفسير في كلّ آية آية لا يمكن للعقول الاهتداء إليه إلّابهداية المعصوم، ومن ثمّ التنبّه إلي إعمال الموازين الدلالية في الوصول إليه.

وهذه الطريقة هي التي يجب اتّباعها في استخلاص هذه البطون، وسوف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 411

تكون مرتبة من مراتب الظهور، وسوف يكون هذا المنهج برهاناً دلالياً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد ورد عنهم عليهم السلام: «من أخذ دينه من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلي الله عليه و آله زالت الجبال قبل أن يزول» «1».

د- إنّ الطريقة التي نريد تطبيقها في فهم الآيات القرآنية تعتمد علي الظهورات الابتدائية للآيات، وتكون نقطة الانطلاق في أيّ فهم آخر.

ه- إنّ الإعتماد علي القرائن العقلية يكون تامّاً بشرط أن تعتمد علي العقل البيّن، وكلّما أمكن تقليل الاعتماد علي العقل النظري يكون أجدر وأصحّ.

وهذا لا يعني أنّه علي التفسير الأوّل للباطن يتمّ التسليم بتهمة الباطنية أو عدم وجوب الإيمان به؛ لأنّه ليس من الظاهر؛ وذلك لأنّ الإيمان بالظاهر دون الباطن الذي هو الغيب والتأويل- كفر، والإيمان بالباطن دون الظاهر هو كفر أيضاً، بل يجب الإيمان بهما معاً. وعليه، فإنّ الذي يقع مورد الثواب والعقاب هو الشريعة الظاهرة ومدي العمل بواجباتها ومحرّماتها، وعدم الالتزام بها والالتفات إلي الباطن فقط زيغ. ومن الجهة الثانية أيضاً إن الاقتصار علي

الظاهر فقط يكون تركاً للتأويل الحقّ الذي هو الباطن الخفي، ويصبح من الشاذّ والنادر مع مرور الزمن، فلذا يجب الالتزام بهما معاً، والدمج بينهما.

ومن ثمّ تجد أنّ المعصوم عليه السلام في أخبار الطينة الغامضة يستنطقون فيها ألفاظ القرآن، وبالتأمّل نلحظ أنّ القرآن ظاهر في ذلك لنكات كانت خفية علينا، لا أنّه من باب الجري وذكر المصداق..

بل ظاهرة البطون أي المعاني الغامضة المعقّدة الخفية- ليست خاصّة بالمعارف الدينية، بل نجد ذلك في مثل علم الرياضيات، فإنّه في حين كونه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 412

بديهياً وتقلّ إن لم تنعدم- فيه الفرضيات، إلّاأنّه ما زالت هناك مجهولات لم يوفّق لحلّها كبار العلماء مع قبولهم وجود الحلّ في داخل البديهيات الرياضية، سوي أنّهم لم يتمكّنوا من التفطّن لكيفية تنظيم المعادلات بحيث يتوصّل بها لحلّ المجهول «1»، وكذلك نجدها في مسابقات الأدب، فإن مهرة الأدب يخوضون في التحليل الأدبي إلي درجات عميقة في النصّ يعجز كثير من أبناء اللغة بل بقية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 413

الأدباء في الوصول إليها، نظير ترسيم شخصّية صاحب النصّ وبيئته وخلفيته العلمية وخلقه وتاريخه، إلي غير ذلك من العوامل والبيئات التي ترتبط بصاحب النصّ، كلّ ذلك من خلال مقطوعة لفظية يدرسها ويحلّلها الأديب البارع. ولقد كانت المسابقات الأدبية معهودة عند عرب الجاهلية حيث كانوا يتعاطون في سوق عكاظ حول القصائد الشعرية والمقطوعات النثرية عند من برز نجمه في الأدب.

والنتيجة: أنّ الروايات التفسيرية ليست مجرّد تعبّدية إجمالية محضة، بل مدلّلة مُبيّنة علي التفسير الثاني للبطون التأويلي الخفي لأنّ فيها إرشاداً إلي كيفية الاستفادة من الظهور القرآني، بخلافه علي المعني الأوّل؛ فإنّها لا تعدو التعبّد بمعني الذي لا نعرف موازينه ولم نتعرّف عليها..

في حين أنّها علي الفهم الثاني للبطون

ستكون شرحاً وتفصيلًا للقرآن الذي هو بمثابة الدستور كما ذكر السيد البروجردي تبعاً لمنهج العلّامة المجلسي في البحار.

وبهذا الفهم يتمّ القضاء علي الشبهة الموجّهة للشيعة الإمامية بأنّها فرقة باطنية غنوصيّة لا تعلن عن أفكارها ومتبنياتها؛ إذ عرفت أنّ الشيعة لا تعتقد ولا تتبنّي فكرة إلّاوهي ظاهرة مآلًا من القرآن والسنّة «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 414

وعلي أساس هذا الفهم يمكن الدعوة إلي تأسيس تفسير جديد يعتمد الكشف عن خفايا الظهور ومعادلاته وتناسباته بتوسّط روايات أهل البيت عليهم السلام بإضافة الاعتماد علي العقل البديهي، وإن كانت نقطة الانطلاق هي من الظهورات الابتدائية للآيات.

وستظهر النتيجة في واحدة من صورها بالشكل التالي: «من عرف حقّنا من الكتاب زالت الجبال ولم يزل إيمانه».

ج- وغاية البحث في هذا الرافد: أنّ القرآن ينوّه ويشير إلي حجج غير الأنبياء والرسل، وأنّهم يقومون بدورهم في الأرض بتوسّط وبركة العلم اللدني كالأنبياء والرسل، مع بيان لحدود هذا العلم بحيث يفرزه عن علم النبوّة والرسالة.

د- (منهج البحث) خطوط البحث: سيتمّ الحديث فيما سيأتي ضمن التسلسل التالي: بعد التذكير أنّ سمة الحديث ستكون قرآنية:

1- استعراض الآيات المستعرضة لنماذج الإمامة والأئمّة الذين قاموا بدورهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 415

الملقي علي عاتقهم في الأرض بعلمهم اللدني.

2- إرسال الرسول يؤدّي إلي ثمرة وهي الإمامة، وأنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة الثابتة لجملة من الرسل وأبنائهم؛ فإنّ جملة من الأنبياء كانوا أئمّة أيضاً:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «1»

، وقوله تعالي:

«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..» «2»

، وكذلك الحال في سيد الرسل، بل هو صلي الله عليه و آله إمام الأئمّة.

3- استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة في إمامة المجتمع البشري، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالي نبيّه بها في الحكم

وقيادة الناس وأنّها تقتضي مقام الإمامة له صلي الله عليه و آله، وهو يغاير مقام النبوّة.

4- الشرح القرآني لماهيات المناصب الإلهية وأقسام الحجج الإلهية.

5- بيان القرآن للمعاد والسير إلي اللَّه واستلزامه لوجود منصب الإمامة.

ه- (فوارق النبوّة والإمامة): قبل الدخول في صلب البحث، لابدّ من الوقوف علي حقيقة العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة وما ينتج عن هذا من معرفة حقيقة الشريعة في مقابل ظاهر الشريعة، وهو ما قد يعبّر عنه بالشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، كما ذُكر في قصّة الخضر عليه السلام مع موسي عليه السلام في سورة الكهف، وكقضاء داود من غير بيّنة، وكحكومة سليمان وذي القرنين عليه السلام بتوسّط الأسباب اللدنية.

وقد يعبّر عن الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية بالولاية الشاملة للطريقة والحقيقة، كما جاء في تفسير قوله تعالي: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَي الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 416

مَاءً غَدَقًا» «1»

بأنّ الطريقة هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وعن الشريعة الظاهرة بالنبوّة، وإن كان سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله قد جمع أعظم مقامات الولاية والنبوّة.

ولابدّ من الالتفات إلي أنّ الشريعة واحدة حدوداً وموازيناً، إلّاأنّ الفرق هو آلة التطبيق، ولا يخفي أنّ البطون والباطن يطلق علي عدّة معانٍ كالتأويل والغيب، وفي مقابل ذلك قد يطلق علي التخليط والخبط والنزوع الروحي والنفساني والإيحائي، أو الغرائب مع عدم التقيّد بالموازين والأدلّة والحجج ونحو ذلك. وقد يطلق علي المعاني الغامضة الخفية أو الحقائق المستورة، والمراد في المقام ما يقرب من المعنيين الأخيرين، والتفرقة بينه وبين العلم المقوّم لماهية النبوّة (الوحي)، وما ينتج عنه من الشريعة الظاهرة.. فوارق مع التنبيه علي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله هو إمام الأئمّة أيضاً إلّاأنّ الكلام في بيان الفارق بين

مقامه من حيث النبوّة ومقامه من حيث الإمامة- في تميّز المراد من العلم اللدني.

من الأُمور المهمّة التي يجب تسليط الضوء عليها قبل الشروع في بيان أصل البحث، هو المائز بين العلم اللدني والعلم النبوّي، أو ما يمكن تسميته الفرق بين الشريعة الظاهرة والشريعة التكوينية (أي السنّة الإلهية الكونية)، ويمكن إيجاز الفرق في أُمور:

1- إنّ تطبيق وتنفيذ أحكام العلم النبويّ هو من سنخ الاعتبارات الكلّية الإنشائية القانونية تُبني علي العلم الحصولي، بينما في العلم اللدني هي من سنخ تكويني وتعتمد علي العلم الحضوري.

ومن الأمثلة علي ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 417

إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه، وهذه الأوامر هي ليست من سنخ الاعتبارات والأحكام الظاهرية، فهي من سنخ آخر مع المحافظة علي أنّها موجودات شاعرة مختارة، فهذه الأوامر إرادات إلهية تكوينية من سنخ الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، حيث إنّ الملك مزوّد بالعلم اللدني، وتصوير الأوامر والإرادات التكوينية لا ينافي إختيارية الملك.

2- إنّ الأحكام الواقعية في الشريعة الظاهرة نابعة من أغراض وملاكات، وتحقيق الأحكام لهذه الأغراض يكون غالبياً لا دائمياً، أمّا في العلم اللدني فالإصابة تكون دائمية كلّية ولا تحتمل الخطأ.

3- إنّ الشريعة الظاهرة لها موازين خاصّة بها، حيث إنّها تعتمد في تطبيقها علي العلم الحسّي الحصولي، بخلاف الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، فهي لها موازين خاصّة من حيث اعتمادها علي علم القضاء والقدر.

ويجب التنبّه إلي عدم الخلط بين الموازين، فاستخدام موازين الشريعة التكوينية والسنن الإلهية الكونية في الشريعة الظاهرة قد تؤدّي إلي الخروج عن الدين، أو العكس بأن يستخدم موازين الشريعة الظاهرة في الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، وكثير من الإشكالات والشبهات تنشأ من الجهل والغفلة بين هذه

الموازين، حيث يستخدم موازين الظاهر في فهم مفادات هي من سنخ الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

ولهذا السبب وبسبب الغفلة والخلط نشأت الفرق المنحرفة عن خطّ أهل البيت، فهي من هذا القبيل، حيث إنّهم أَسْرَوا وعمّموا أحكام الشريعة والسنّة الإلهية الكونية التي اطّلعوا عليها علي الشريعة الظاهرة التي هم مخاطبون بها أيضاً، فيجب التنبّه إلي وضع هذا الحاجز بين الموازين في كلا الدرجتين من الشريعة، درجة الظاهر ودرجة السنّة الإلهية الكونية.

ومن صور الخلط الذي يحصل: إلغاء الشريعة الظاهرة بحجّة الوصول إلي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 418

أهداف وأغراض الشريعة بدعوي السفارة والنيابة، الأخبار والرواية عنه مع انقطاع الطريق الرسمي بيننا وبينه (عج).

وإحدي التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر عليه السلام عند ظهوره سوف يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة الظاهرة بالسنن الإلهية الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب أنّ الشريعة هي الظاهرة إلّاأنّ تطبيقها سوف يكون بموازين الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

وليتنبّه إلي أنّ عموم الناس غير مكلّفين إلّابالشريعة الظاهرة، ولا يمكن لهم العمل بالدرجة الخفية، كما أنّه ليس هناك شريعتان، بل شريعة واحدة لا تختلف وإنّما تطبيقها تارةً بموازين الظاهر وأُخري بآليات تصيب الواقع ولا تخطئه، وهي موازين خفية باطنة، وسيأتي بيان حقيقة الشريعة بحسب السنن الإلهية الكونية.

ومن هنا نعرف كيف يتمّ الملائمة بين معرفة الإمام بأنّه سوف يُقتل علي يد ابن ملجم، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام يعلم أنّه مقتول لا محالة، وذلك عن طريق العلم اللدني طبقاً لموازين الشريعة والسنّة الكونية، لا بتوسّط العلم من الأسباب العادية طبقاً لموازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة. بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق علي الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية

فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح حتّي في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث علي أهمّيته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ عموم التاريخ، ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه السلام علي حفظ الدين والشريعة والتزام الناس علي مرّ الزمان، وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وسنّ هذه السنّة هي إحدي الملاكات التي نشأت من شهادته عليه السلام، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر في حادثة الاستشهاد علي الفترة الزمنية الخاصّة.

ويمكن بيان الفوارق كالتالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 419

الفارق الأوّل: إنّ النبوّة لإبلاغ الأحكام الإعتبارية الإنشائية القانونية، بما يشمل الآداب والعلوم الحصولية كالمعارف، في حين أنّ نفس تلك الشريعة للإمام من سنخ تكويني لا اعتباري ومعلومة حضوراً لا حصولًا، وشاملة كالأولي، ومن الأمثلة علي ذلك أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه.

الفارق الثاني: إنّ إصابة الشريعة الظاهرة أي الأحكام الاعتبارية القانونية الواقعية للواقع أي الملاكات والمصالح والمفاسد وللأغراض- غالبية لا كلّية دائمية، نظير الحكم الظاهري الأُصولي بالنسبة للحكم الواقعي، وإن كان بين النسبتين فرق جلي، كما أنّ هناك فرق في المعني بين الشريعة الظاهرة والحكم الظاهري، بينما الإصابة في الشريعة بحسب الدرجة الواقعية والسنّة الكونية دائمية كلّية.

الفارق الثالث: إنّ تطبيق الشريعة الظاهرة يرتكز علي العلم الحسّي وموازين هذه النشأة، نشأة الظاهر «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» «1»

، وتطبيق الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية يرتكز علي علم القضاء والقدر والمشيئة والإرادة وآثار الأفعال بحسب النشآت الأُخروية.

علماً بأنّ الكثير من الخلط والشبهات والجهالات نشأت نتيجة الخلط بين نحوين من مفادات القرآن والسنّة، حيث إنّ قسماً منها مفاده الأوّل، والآخر الثاني.

وواحدة من عوامل الانحراف في هذا المضمار: وزن الظاهر

بموازين السنن الكونية أو العكس، فالخطابية والمغيرية حكّمت موازين السنن الإلهية الكونية علي الظاهر، وقد مرّ أن إحدي التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر المهدي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 420

(عج) يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة بالسنّة الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب تطبيق الشريعة الظاهرة بموازين الشريعة التكوينية «1».

فالتساؤل المتوهّم حول الشجاعة في مبيت عليّ عليه السلام في فراش النبيّ صلي الله عليه و آله، هل هي مع علمه أنّه لا يقتل؟ ثمّ كيفية كونها منقبة عظيمة مدحه بها القرآن المجيد، وكيف يقدم الإمام عليه السلام علي الصلاة في جامع الكوفة أو دخول الإمام الحسين عليه السلام في معركة كربلاء مع علمه بقتله؟ يرجع التساؤل إلي معالجة التكوين بموازين الظاهر، بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق علي الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية- فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 421

حتّي في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث علي أهميته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ بحسب عموم التاريخ.

ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه السلام علي حفظ الدين والشريعة إلتزام الناس علي مرّ الزمان وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وقد سنّ (صلوات اللَّه عليه) هذه السنّة في الدين التي هي إحدي الملاكات المتولّدة من شهادته عليه السلام، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر علي زمن الحادثة والاستشهاد في تلك الفترة الزمنية الخاصّة، وكذلك الحال في جملة سيرة الرسول صلي الله عليه و آله وسيرة أمير المؤمنين عليه السلام.

الفارق الرابع: النسخ في الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة اعتباري، علاوة علي وجود مرتبة الظاهر الكاشف عن الدرجة

الظاهرة التي هي واقعية بحسبها، وظاهرة التقييد بالمعني العامّ من تخصيص وحكومة وورود- وتقييد الأدلّة والدلالة علي الشريعة الظاهرة لا في متنها.. بينما النسخ في الولاية والشريعة بحسب السنن والنظام الكوني تكويني وهو المعروف بالبداء، وبمعرفة الناسخ تتفاوت مراتب الأولياء والحجج..

الفارق الخامس: لم يُستثن أحد من التكليف بالشريعة الظاهرة، فالتدين بها في عهدة الجميع من جنّ وإنس بما في ذلك الأولياء والحجج، أمّا في الشريعة الكونية فهي وظيفة خاصّة بحجج اللَّه وملائكته.

ومن ثمّ ينبثق سؤال: إنّ ما عدا المذكورين- وهم غير المعصوم- قد يصلون بالرياضات الشرعية إلي مقامات عالية حيث تتفتّح قلوبهم علي عوالم الغيب، فلم لا يكونون مكلّفين بالولاية وبالشريعة الكونية الإلهية بعد أن تمّ وصولهم إلي أسافل تلك المنازل؟

الجواب: إنّ رقيهم هذا محمود حيث يزيد من علمهم وإيمانهم، ولكنّهم لم يُكلّفوا إلّابالشريعة الظاهرة؛ لعدم حجّية ما يتلقّونه بقنواتهم الروحية لعدم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 422

عصمتهم.

الفارق السادس: (حقيقة الشريعة الإلهية الكونية). إنّ أحكام الشريعة الكونية بحسب الدرجة الواقعية والتكوينية لا تعدو كونها إلّاتطبيقاً للشريعة الظاهرة وسوي أنّه تطبيق بعلم لدني لا بوسيلة الحسّ والعلم الحصولي؛ لأنّ الشريعة واحدة لا تختلف بحسب الظاهر الواقعي ولا الكوني ولا حدودها وأحكامها، كما استعرض القرآن الكريم لنا قصّة الخضر مع موسي التي كانت يُتراءي فيها في بادئ الأمر الخلاف، ثمّ آل الأمر إلي الوفاق بعد وضوح رجوع التأويل إلي تطبيق خفي لظاهر الشارع، وهذا التعريف أضبط وأصلح التعريفات للشريعة الإلهية في النظام الكوني.

وتوضيح ذلك يتمّ بالالتفات إلي هذه الزاوية: أشرنا في الفصول السابقة إلي أنّ أصل الولاية للَّه تعالي «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «1»

و «هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «2»

أعمّ من التشريع والحكم القضائي والحكم التنفيذي، وعندما نطالع القرآن نجد أنّه

يلفت إلي الأصل المذكور وتفاصيله، بل في الآيات المرتبطة بالمسائل العامّة الحكومية كآيات الجهاد والأنفال وأمثالها، هي تشريعية بلحاظ تنظيرها الكلّي، وحكم تنفيذي ولوي بلحاظ مواردها التطبيقية الجزئية، وهذه قراءة ثانية لأسباب النزول، لا يقرّ بها ولا يتفطّن إليها أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان، لعدم تصويرهم لولاية اللَّه تعالي السياسية في الأحكام التنفيذية الجزئية زيادة علي ولايته تعالي في التشريع الكلّي.

وكذلك في القضاء كما يلحظ ذلك بوضوح في حكومة الرسول صلي الله عليه و آله التي يستعرض لنا القرآن الكريم سيرتها، فإنّ في المنعطفات الخطيرة في الأحداث

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 423

السياسية أو القضائية أو العسكرية والمالية نري في الآيات أنّ الحاكم الأوّل هو الباري تعالي في تلك الأحداث، والحاكم الثاني هو الرسول صلي الله عليه و آله، وأهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان يخشون هذا التصوير لحاكمية اللَّه تعالي السياسية علي البشر؛ لأنّهم لا يمكنهم تصوير ذلك بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما ذهبوا إليه من انقطاع الاتّصال بالغيب وعدم إمكان إستعلام الإرادة الإلهية الجزئية في الأحداث.

ومن ثمّ فالولاية في هذا المضمار للرسول صلي الله عليه و آله ومن بعده للمعصومين عليهم السلام هي في طول ولاية اللَّه تعالي وبإذنه، وليست مستقلّة، خلافاً لإطروحة المعتزلة وغيرهم من المذاهب الأُخري، ومن قبل اليهود حيث قصروا ولاية اللَّه تعالي علي التشريع دون مباشرة القضاء وسلطة التنفيذ حينما قالوا: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ..» «1»

.فالرئيس والحاكم السياسي الأوّل والمشرّع الأصلي والقاضي الفعلي هو اللَّه سبحانه وتعالي، ومَن ثبتت له الولاية وهو الرسول صلي الله عليه و آله والإمام، فهي في ظلّ تلك الدولة والولاية المباشرة للَّه تعالي لا بالاستقلال عنها، فكلّ ما يصدر عنهم فهو يصدر عن اللَّه

حقيقة.

بل تلك الحاكمية تجلّت بوضوح في القرآن الكريم بمعني الحكم المسند إليه تعالي خاصّة من دون نسبته إلي الرسول صلي الله عليه و آله أو الإمام «2» علي صعيد التنفيذ والفصل القضائي والحكم التنفيذي، وبالتالي يصحّ القول بأنّ حكم وحاكمية اللَّه تعالي ليست بالقوّة في عهد حكومة المعصومين عليهم السلام، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالي في الجوانب الثلاثة. أمّا أمثلة التشريع الصادرة مباشرة منه تعالي فكثيرة، وهكذا في القضاء فينشئ تعالي حكماً فاصلًا للنزاع كما في قصّة البقرة في بني

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 424

إسرائيل، وموارد أُخري استعرضها القرآن الكريم في الحكم الولوي (التنفيذي)، نظير أوامر الجهاد النازلة في موارد معينة وإن استفيد منها تشريعاً كلّياً أيضاً، وكحكمه تعالي بزواج النبيّ صلي الله عليه و آله من زينب وزواج عليّ عليه السلام من فاطمة عليها السلام، إذ حكمه تعالي الولوي شامل للوظائف العامّة للدولة والأُمور الخاصّة للبشر.

وهذا النمط ثابت طولًا للمعصومين عليهم السلام، وهذا أحد تفاسير قوله تعالي: «.. أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ..» «1»

، وهذا معني كون حكومة المعصوم إلهية أي لا يقتصر في أحكامها وتشريعاتها علي كلّيات الأحكام في الدين، بل إنّ الحاكمية بالفعل في الجوانب الثلاثة هي للَّه سبحانه، وهذا غير متوفّر في غير حكومة المعصوم وإن كانت بالرسم الديني، وسيأتي توضيحه مبسوطاً في سيرة الرسول علي صعيد الدولة في القرآن الكريم.

وبضمّ هذا الفرض إلي ما ذكرناه في الأُصول والفصول السابقة من أنّ الحكم التنفيذي تطبيق للحكم التشريعي فهو حكم جزئي وذلك كلّي يتبلور: أنّ أحكام الشريعة الكونية الإلهية بحسب الدرجة الواقعية التكوينية ليست إلّاأحكاماً تطبيقية للشريعة الظاهرة بعلم لدني علي حدّ الحكم الولوي «2»، وأنّ الولاية إقامة وتحقيق وإنجاز لأغراض النبوّة.

الفارق السابع: إنّ منظومة إقامة

أحكام الشريعة بحسب المنظومة الظاهرة تخضع للأسباب الطبيعية الظاهرية، وفي باب ومقام الولاية والواقع الخفي الباطن، وشريعة السنّة الإلهية الكونية تخضع للَّه تعالي وتتسلسل تبياناً وبلاغاً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 425

وتطبيقاً وتنفيذاً وإقامةً وتشييداً إلي الأوصياء والملائكة، وقد يستعان بغير المعصوم بشكل قسري لا جبري.

ويمكن بيان الفوارق الأخيرة بصياغة أُخري:

*- إنّ العلم اللدني والشريعة الكونية خاصّة بأولياء اللَّه- حججه وملائكته- وليست هي وظيفة عموم البشر الآخرين مهما بلغوا من العلم، وحتّي لو استطاعوا الوصول إلي نفحة ورشحة يسيرة من بحار محيطات العلوم والشريعة.

*- يوجد في الشريعة الظاهرة نسخ هو نسخ اعتباري وهو المبحوث عنه في الأُصول، بينما في الشريعة الكونية الإلهية يوجد نسخ تكويني وهو البداء المعروف، وتختلف مراتب أصحاب العلم اللدني في ذلك، فبعضهم له علم بالمنسوخ فقط وبعضهم له علم بالناسخ والمنسوخ.

*- ذكرنا في الفصل الثاني أنّ الولاية المطلقة للَّه سبحانه وتعالي، ومنها تتفرّع إلي النبيّ الخاتم ومن ثمّ للمعصومين من ولده، فولايتهم في التشريع والقضاء والتنفيذ هي متشعّبة عنه جلّ وعلا، إلّاأنّ هذا لا يعني عدم تدخّله المباشر في صياغة كلّ منها في بعض الأحيان. وبالتالي لابدّ من القول إنّ حكومة اللَّه ليست بالقوّة الشأنية في زمن حكومة المعصومين، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالي، فهو يكون مشرّعاً ويكون حاكماً، ويكون مصدراً للحكم الولوي (التنفيذي) في زمن حكومة المعصومين، وهذا يجعل حكومته فعلية.

ومن أمثلة التشريع كثير، إذ في كثير من الأحيان يصدر التشريع منه مباشرة، ولا يكون الاعتبار صادراً من الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله، وهكذا في القضاء إذ يحكم هو كما في قصّة البقرة. وموارد أُخري يكون الحكم والفصل فيها للَّه سبحانه، وفي الحكم الولوي كذلك كما في آيات الجهاد، وزواج النبيّ من زينب

وزواج عليّ من الزهراء سلام اللَّه عليهما، ويفترق الحكم الولوي هنا عن غيره بأنّه ليس في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 426

وظائف الدولة العامّة بل في الأُمور الخاصّة، وهذا النمط ثابت للَّه والمعصومين دون النوّاب من الفقهاء.

فالحقّ تعالي يتصرّف مباشرةً في التطبيق بموازين العلم الإلهي، أي تطبيق الشريعة الظاهرية بما له من موازين العلم الإلهي، ولن يكون التطبيق بموازين ظنّية حسّية، والعلم اللدني يختلف درجاته، وبالنسبة للَّه المحيط له أعلي الدرجات، فهو: «أَصْدَقُ قِيْلًا»، وهو «أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ»، فعندما يقال إنّ حكومة المعصوم إلهية لا يعني أنّ أحكامها وتشريعاتها دينية فقط، بل يعني أنّ الحاكمية هي للَّه سبحانه بالفعل، وهذا غير متوفّر في حكومة غيرهم وإن كانت دينية. وبناءً عليه نقول: إنّ الشريعة الكونية الإلهية هي عبارة عن تطبيق للشريعة الظاهرة بعلم لدني، فتطبيق اللَّه تعالي دوماً يكون بالعلم اللدني، أمّا في تطبيق المعصوم فهو في الجملة لا بالجملة بحسب الوظيفة المأمور بها.

أمّا الشريعة الظاهرة فهي التنظير في الأُمور الكلّية، والتطبيق يكون بالشريعة الكونية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 427

*- إنّ منظومة الشريعة الظاهرة والارتباطات بين حلقاتها خاضع لآليات النشأة الدنيوية أي الأسباب الظاهرية، أمّا في منظومة الشريعة الباطنة من اللَّه عزّوجلّ والنبيّ والرسل والأوصياء، فهم مزودون بالعلم اللدني، وقد يستعان بغير المعصوم كما في تسخير الآخرين ويكون الفاعل بالقسر والفاعل بالجبر، وآلياته تكون غير ظاهرية، وقد تكون ظاهرية.

بعد استعراض هذه المقدّمات ندخل في صلب البحث وذلك باستعراض مجموعة من النماذج القرآنية:

1- استعراض الآيات المرتبطة بالحجج الذين قاموا بدورهم الملقي علي عاتقهم في الأرض بالعلم اللدني.

2- بيان غاية إرسال الرسل، وسنري أنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة.

3- استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالي بها.

4- الشرح

القرآني لماهيات المناصب الإلهية.

5- بيان القرآن للمعاد والسير إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 429

الأمر الأول استعراض نماذج الإمامة في القرآن … ص: 429
اشارة

ونستعرض فيها قائمة لأولياء اللَّه الحجج، وكيفية توفّرهم علي العلم اللدني وتصرّفهم علي طبقه، ومنه سوف ينكشف لنا جوانب هذا العلم.

النموذج الأوّل: قصّة الخضر وموسي … ص: 429

والتي تناولها القرآن الكريم في سورة الكهف من الآية 60 وحتّي الآية 82.

وقبل استعراض الآيات يجب أن نلقي الضوء علي الجوّ العامّ الحاكم علي سورة الكهف، فالآيات التي ابتدأت بها السورة تستعرض حرص الرسول الكريم صلي الله عليه و آله علي قومه لعدم استجابتهم وأسفه عليهم لعنادهم، حيث قال تعالي:

«فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَي آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» «1»

، فنزلت هذه السورة لتسلية فؤاده صلي الله عليه و آله من خلال استعراض ثلاث وقائع هي: أصحاب الكهف، الخضر وموسي، ذو القرنين، وكأنّها تسلّي قلب النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله بأنّ الإرادة الإلهية لا تتخلّف، وأنّ الهداية الإيصالية تتحقّق، وأنّ هناك منظومة من رجال الغيب الذين يقومون بحماية الشريعة من الانحراف والأخذ بيد الناس في أحلك الظروف والمحن بتدبير النظام العامّ بنحوٍ خفي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 430

استعراض تفصيلي للآيات: … ص: 430
اشارة

«وَإِذْ قَالَ مُوسَي …» «1»

أي واذكر أيضاً قصّة موسي، ممّا يدلّل علي ما ذكرناه من أنّ القصص الثلاث أتت في سياق واحد ومن أجل هدف واحد.

وفي أسباب النزول: أنّ موسي عندما أنزل اللَّه عليه الألواح رجع إلي بني إسرائيل وصعد المنبر وأخبرهم أنّ اللَّه قد أنزل عليه التوراة وكلّمه، فقال في نفسه:

ما خلق اللَّه خلقاً أعلم منّي، فأوحي اللَّه إلي جبرئيل أدرك موسي فقد هلك، واعلمه أنّ عند ملتقي البحرين عند الصخرة رجلًا أعلم منك، فسر إليه وتعلّم منه.

أي أنّ للخضر علم مغاير لعلم موسي، وهذا مع التسالم علي أنّ موسي أفضل من جميع من سواه في عصره.

«لَاأَبْرَحُ …» «2»

ظاهر في وجود أمر بالمجي ء إلي هذا المكان وبالتالي وجوده فيه ضرورة.

«ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ» «3»

يدلّ علي تحديد المكان بالعلامة. والآيات اللاحقة تبين أنّ موسي قد

لقي الخضر نائماً ولم يلتفت إلي أنّه هو الذي يجب أن يتبعه فسار قليلًا، فارتدّا علي آثارهما بعد أن التفتا إلي ذلك.

«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «4»

، وهذه الآية تبين لنا صفات الخضر:

أ- الإضافة التشريفية للَّه جلّ وعلا، حيث عبّر عنه أنّه من عبادنا، ممّا يدلّ علي الحظوة والانتساب.

ب- إنّ التتبّع في استخدامات (عبادنا) يفيد أنّه لم يُستخدم إلّافي الأنبياء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 431

والمرسلين والأولياء، ولم يستخدم هذا التعبير لجميع العباد.

ج- إنّه مشمول بالرحمة الخاصّة.

د- إنّه متّصل بالغيب من خلال العلم الذي أوتي من الذات المقدّسة، وإنّ هذا العلم من لدن العليم الخبير، ففيه إشارة إلي عدم كون علمه كسبياً بل إفاضياً، وأنّه علم يفاض من لدن الذات.

«قَالَ لَهُ مُوسَي هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» «1»

، يذكر الشهيد الثاني في منية المريد جملة دلالات في هذه الفقرة علي التواضع، إنّ في هذه الجملة الوجيزة اثني عشر فائدة من فوائد الآداب، منها: التواضع في الطلب، فقوله: (هل) تفيد الاستيذان منه قبل الالتحاق به، والتعبير ب (أتّبعك) ولم يقل أرافقك أو أماشيك، ممّا يفيد معني التبعية وما فيه من معني المتابعة المطلقة، وهي الإتيان بمثل فعل الغير لأنّه فعله، لا لوجه آخر، ولا يخفي ما فيها من الخضوع للخضر، وهو في هذه المتابعة مأمور بالكون معه، وفي هذه كمال التواضع والتفخيم للخضر، والتعبير (علي أن تعلّمني) أي لا يشترط أن تعلّمني، فيدلّ علي الرجاء، والتعبير بتعلّمني ولم يقل أعلم، والتعبير (ممّا علمت)، أي ليس هو كلّ ما عُلّمت وهو تفخيم ودليل أنّه تعليم إلهي.

وهذا خضوع وتواضع من قبل النبيّ موسي للخضر عليه السلام مع أنّه من أولي العزم

ومن الأئمّة، حيث إنّ بعض الأنبياء من غير أولي العزم وصفوا بأنّهم أئمّة، فكيف بأولي العزم، مضافاً إلي أنّه كان حاكماً علي بني إسرائيل، والحكومة من شؤون الإمامة لا من شؤون النبوّة، لكنّ الإمامة لها درجات مختلفة في الكمال والفضيلة الكونية كاختلاف النبوّة في الدرجات.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 432

كما أنّ هذا التواضع ليس من باب الخلق الحسن، بل هو من باب ما يقتضيه حقيقة العلم الذي يمتلكه الخضر والذي امتاز به عن النبيّ موسي.

الواضح من هذه الآيات أنّ العلم الذي كان لدي الخضر هو من الشريعة الكونية والسنن الإلهية في نظام التكوين؛ وذلك لأنّه لو كانت من الظاهرة لعلم بها موسي، وإنّما سميت شريعة لأنّ فيها أوامر وإرادة إلهية كونية، وعدم تزويد موسي بها دليل علي أنّها خاصّة بالبعض.

والعامّة لجمودهم وابتعادهم عن بيت الوحي والعصمة تراهم وقعوا في حيص وبيص في كيفية تصوير اختلاف العلم الذي لدي الخضر مع العلم الذي لدي نبيّ اللَّه، وهل هو من سنخ النبوّة أم غير ذلك؟ وما ذلك إلّالأنّهم لم يذعنوا بالإمامة والعلم اللدني ولم يعترفوا بمقام الولاية الذي يطّلع علي المشيئة الإلهية والإرادات الإلهية، والذي يعرّف الشريعة بحسب السنن الإلهية التكوينية، وجمدوا علي منصّة الشريعة الظاهرة.

«قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» «1»

، دلالة علي أنّ الصبر يتصوّر مع العلم، وأنّ العلم التشريعي والنبوّة لم يُحيطا إحاطة تامّة، وأنّه لابدّ أن يزوّد الحجّة بالعلم اللدني والشريعة الكونية وهي الولاية؛ إذ لو كانت ظاهرة لما افتقدها موسي عليه السلام وشريعته عامّة، وهو وإن كان إماماً أيضاً إلّاأنّ الإمامة درجات، وكذلك اختلاف العلم اللدني الذي يزوّد به الإمام.

ويدلّ هذا المقطع علي اختصاص الشريعة بحسب الدرجة الواقعية الكونية بالأولياء المصطفين المعصومين، حيث

لم يزوّد بها بتمامها حتّي موسي عليه السلام فضلًا عن عموم المكلّفين.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 433

«قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «1»

، إشارة إلي نظير وما فعلته عن أمري، الدالّ علي أنّه أمر إلهي وارادة كونية، إلّاأنّه ليس من الشريعة الظاهرة، وهو إشارة إلي ما يأتي من قول الخضر.

«قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «2»

ففيه أيضاً- إشارة إلي تأدّب الخضر مع النبيّ، فلم يأمره بالاتّباع بل علّقه علي مشيئته وإرادته، كما أنّ الاستعلام العلمي عن حكمة فعل من الأفعال لا ينافي الائتمام؛ وذلك لأنّ التبعية ليست معلّلة أو موقوفة علي حكمة الفعل.

إنّ هذه الآداب بين الحجج تشير إلي مطلب مهم وهو اعتقادهم بالمناصب الإلهية لكلّ منهما، وقد ورد في حديث المعراج: أنّ النبيّ في أحد المواقف تقدّم علي الأنبياء وأمّهم للصلاة، ولم يكن لديه خشية وخوف مع إذعان جميع الأنبياء لهذا التقدّم.

وقد أثار علماء المعارف مدي الارتباط بين الفروع والعقائد، وأنّ الأفعال لها مناشئ وعلل خلقية، ففي قوس النزول نري أنّ العقيدة تولّد صفات وهي تكون مصدراً لعدد من الأفعال، بينما في قوس الصعود الأفعال تولّد صفات وهي تولّد ملكات جوهرية أي عقائد.

كما يدلّ هذا المقطع علي أنّ المأموم تابع لإمامه إمامةً تعبّدية، فلا يحقّ له تعليق تبعيته علي معرفة الحكمة والمصلحة في أوامر إمامه، نعم، له الحقّ أن يسأل إمامه عن وجه الحكمة، ولكن كما ذكرنا أنّ منشأ المتابعة ليس معرفة الحكمة وإنّما الإمامة، فالآداب المتبادلة بين الخضر وموسي ذات منشأ وبذر عقائدي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 434

«لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» «1»

، اعتراض من موسي بحسب الشريعة الظاهرة؛ لأنّ خرق السفينة تصرّف في ملك الغير.

«قَالَ

لَاتُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا» «2»

، ليس المقصود من النسيان المعني المصطلح وهو المنفي عن مقام العصمة للنبيّ، كما سيتّضح ذلك في الآيات القادمة، بل إنّ عدم اعتراض موسي سوف يكون نقصاناً في علمه النبويّ، وإنّ من الكمال لموسي هو الاعتراض، فالمعني المراد من النسيان هاهنا ضرب من المعني لا ينافي العصمة، نظير المعني المجازي في قوله تعالي: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «3»

، إذ النسيان هو بحسب مقام الولاية الذي كان عند الخضر المطّلع علي الشريعة بحسب الواقع الكوني، وهو لا ينافي عصمة موسي بحسب الشريعة الظاهرة، كيف والنسيان ليس أسوأ من عدم علمه بما يعلمه الخضر، ومع ذلك لم ينافِ عصمته.

والمفاد المطابقي لكلام النبيّ موسي عليه السلام ليس كلاماً واستفهاماً وإنّما هو اعتراض بمقتضي الشريعة الظاهرة واستنكار للفعل. نعم، يقتضي بالتلازم العقلي الدفاع والجواب من الخضر، فمحور التجاذب في الكلام هو عمّا لم يطلع عليه موسي، ومن ثمّ كانت إجابة الخضر: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» «4»

، وهو يشير إلي ما قاله لموسي في بدء لقائهما: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «5»

، أي ما لم تعلمه، ومن ثمّ لم يقل له إنّك لم تفِ بما تعهّدت به، فالموازين بحسب الشريعة الظاهرة هي السبب في اعتراضه الموجب لترك الشرط فيما بينهما، إذ الشرط لا يغير الحكم الأوّلي عمّا هو عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 435

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» «1»

، وهذه هي الحادثة الأولي، والتي رأي فيها موسي تصرّفاً في ملك الغير وتعريض الآخرين للغرق، كما يُلاحظ أنّ موسي استخدم تعبير (إمراً) أي مستقبح، بينما في قتل الغلام

كما ستري- يستخدم نكراً وهي أشدّ من الأولي؛ لشدّة قباحة الفعل ظاهراً.

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا» «2»

، وهو قتل الخضر للطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم، وفي هذا تعدّيان في نظر موسي: أحدهما هو القتل من دون سبب مجوّز له، والآخر أنّه ما زال صغيراً ولا يؤاخذ بما يفعل فضلًا عمّا لم يأت به.

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا» «3»

، فالفعل هنا ليس كسابقه؛ إذ ليس فيه تعدّي، بل عمل تبرّعي محض لمصلحة الآخرين، كما يظهر أنّ إقامة الجدار قام بها الخضر بنفسه من دون موسي، وأنّه كان دفعياً بنحو التصرّف التكويني لا تدريجياً، لذا كان اعتراض موسي عليه بعد انتهاء العمل.

«قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» «4».

إنّ هذه الآية الكريمة توضّح لنا أنّ للخضر نوع من العلم الذي ليس لدي النبيّ موسي؛ وذلك لأنّ العلم النبويّ هو العلم بإرادات اللَّه التشريعية، وهذا بخلاف العلم اللدني الذي يكون لدي أولياء اللَّه الحجج، ونحن في نفس الوقت نثبت أنّ كلّ نبيّ من حيث نبوّته قد يكون مطّلعاً علي العلم اللدني من بعض جوانبه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 436

ومن امتيازات الشريعة في تطبيقها بدرجتها في سنن نظام الكون والعلم اللدني، أنّ الواجبات والأحكام يمكن تطبيقها في دائرة واسعة زمنية، أي يقع التزاحم بين الفعلي والمستقبلي حيث يعلم به، وكذا تشخّص الأهمّية في الملاك بعد ملاحظة تداعياته وما يترتّب عليه. وهذا هو سرّ الفرق بين حكومة المعصوم عليه السلام وحاكميته بتوسّط ما يتنزّل عليه

كلّ عام في ليلة القدر من مقدّرات كلّ شي ء، وبين حكومة غير المعصوم وحاكميته حيث يجهل كلّ ذلك، بل في حكومة المعصوم يُتفادي ذات التزاحم نفسه، لما فيه من التفريط ببعض المصالح الشرعية، بخلاف حكومة غير المعصوم فإنّه لعدم إحاطته بتداعيات الأحداث والحوادث يفرط وينفرط عليه زمام الحفظ للملاكات والحدود الشرعية، ويقع في سلسة من التفويت للأغراض الشرعية تحت ضغط ظروف التزاحم المفاجئ والتدافع التي تفرض عليه بسبب عدم قدرته علي الإحاطة بخفايا الأُمور الراهنة والمستقبلية.

وعلي ضوء ذلك تتبلور فظاعة الطغيان والكفر، كما في مَن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً، كما ورد عن الصادق عليه السلام: «ذلك تأويلها الأعظم» «1»

الإحياء بالمعرفة..

وهو قد ينطبق ويلتئم مع تداعيات الفعل في سلسلة ممتدّة، كما في إعزاء كلّ ذنوب الأُمّة إلي الأوّل والثاني.

وهناك مقولة تقول: إنّ الفقه بمعني الكلمة- مَنْ يتوصّل إلي أغراض الشرع بدون تزاحم، ومن بعد الدرجة اللاحقة مَنْ يصل إليها بالتزاحم، ولا تصل النوبة إلي التعارض، ومن بعد مَنْ يتوصّل إليها بالجمع العرفي، فالتعارض هو الخيار الأخير لمن يعجز عن الإحاطة بالدرجات السابقة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 437

وهذه المقولة تؤشّر علي أنّ كثيراً من التزاحمات المتصوّرة هي وهم تزاحم لا حقيقة، ومع تحقّقه فلا طريق إلّاالتعامل مع الملاك بشكل مقطعي، وهذا ليس إلّا لفقدان الوسيلة، لا لاختلاف التزاحم بين الشريعة بحسب درجة تطبيقها في النظام الكوني والظاهرة.

نعم، لا يحيط غير المعصوم بالإرادات الكلّية حضوراً، وإنّما هو مختصّ بمن له الهداية في الإراءة، كما أنّه لا قياس ولا مقارنة بين علم المعصوم بالشريعة الظاهرة وما يتوصّل إليه الفقيه بالظنّ القاصر عن الإحاطة بكلّ الشريعة الظاهرة، بل القاصر عن الوصول إلي متن الشريعة، بل من وراء حجاب دلالة

الألفاظ مع عدم إحاطته أيضاً بكلّ الدلالة ولا بكلّ تناسباتها، فمن ثمّ يقع الخطأ حتّي في هذا المقدار المحدود من النزر اليسير، فضلًا عن عدم إحاطته بتنزّلات الإرادات الكلّية ومنظوماتها.

وبالجملة لا محلّ لقياس الثري من الثريا والتراب من فلك عالم الإمكان، وقد روي العياشي عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «1»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسي في الألواح وكان موسي يظنّ أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 438

لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه، وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه، وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار

ودانوا اللَّه بالبدع وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة.

فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلي الله عليه و آله، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم وموسي نبيّ اللَّه يوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

، فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2».

وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه فكذلك- واللَّه يا إسحاق بن عمار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون واللَّه- علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 439

اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه ولا

يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ» «1».

والهداية الإيصالية شي ء وراء الوساطة في الفيض في قوس الصعود أو هي، ومع كونها هي هل هي مختصّة بالمؤمن أو تعمّ الكافر حيث إنّ الوساطة لم يُستثن منها أحد؟

بل هي مع خصوصيات تذكر في محلّها، والوساطة لم يُستثن منها أحد سوي أنّ الكافر لا فيض إليه وإنّما حرمان، فالوساطة وساطة في الحرمان من تحصيله علي كمالات، والواسطة في مثل هؤلاء أئمّة الشرّ والضلال كإبليس والجبت والطاغوت.

وباختصار: إنّ السورة المباركة (الكهف) في صدد بيان قصّة الإمامة، وإنّها ظاهرة مستمرّة لا تنقطع، وإنّ إكمال الدين ليس بالنبوّة المجرّدة عن الولاية والإمامة، فإنّها ليست الغرض الأقصي، وإنّما التمام بالهداية الإيصالية، والمتمثّلة بإمام له الولاية وإدارة جماعة خفية مهمّتهم حفظ أغراض الشريعة الظاهرة بتحقيقها سواء المرتبطة بنظام المجتمع أم المرتبطة بالفرد.

ثمّ إنّ الظاهر أفضلية موسي علي الخضر من بعض الجهات؛ بقرينة تبعية الثاني لشريعة الأوّل، المستفاد من بيانه لشرعية أفعاله بموازين شريعة التوراة، وإن كان يمتاز علي موسي بالعلم اللدني للوصول إلي أغراض الشريعة.

وبيانه بشكل مفصّل يعتمد الالتفات إلي هاتين النقطتين:

النقطة الأولي: يذكر في علم أصول الفقه أنّ القضية الشرعية الحقيقية التي ينشأها الشارع ويعتبرها، لها بعد تكويني وهو الإرادة التشريعية، وحقيقة هذه الإرادة تكوينية تتعلّق باعتبار الحكم الذي هو فعل الشارع.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 440

والإرادة التكوينية هذه كلّية من جهة أنّ متعلّقها هو الاعتبار الكلّي. بل العراقي ومن قبل النهاوندي افترضا أنّ حقيقة الحكم هي هذه الإرادات والإنشاء والاعتبار مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

ومن ثمّ سواء قلنا إنّ حقيقة الحكم الاعتبار والإرادة مبدأه كما هو الحقّ، أم قلنا إنّ حقيقته الإرادة والاعتبار مبرز وكاشف ومخبر، فالنتيجة المتوخاة واحدة، وهي

أنّ التكوين ذو صلة بالاعتبار، وأنّ غطاء الاعتبار أو محكيه هو الإرادات الإلهية التكوينية الكلّية، وهذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل حتّي تنتهي بنفس الوحي ومن قبل النبيّ.

هذا ويذكر في علم الأُصول أيضاً أنّ الحكم الكلّي ينحلّ عقلًا إلي أحكام جزئية شرعية اعتبارية، وكذا الإرادات الكلّية تنحلّ إلي إرادات جزئية تكوينية، وقد نبّه إلي ذلك العرفاء أيضاً، وهو الحقّ.

النقطة الثانية: إنّ تنزّل الأمر والشأن منه تعالي علي عالم مثل الدنيا يتمّ عبر مراحل ولوائح تكوينية ونشآت متعدّدة، وكلّما كان العالم والنشأة أكثر علوية كلّما كانت المتنزّلات أكثر بساطة، وكلّما توغّل في التنزّل كلّما كان أكثر تقديراً ومحدودية وتضيّقاً.

وعلي هذا الأساس نقول: إنّ النبيّ الحامل لشريعة الظاهر تتلقّي نفسه الشريفة التشريع في لوائح عالية في النشآت الغيبية، فهو يعلم بالاعتبارات وموجبها وهي الإرادات الكلّية التكوينية.

وأمّا حامل الولاية والشريعة في السنن الكونية فيتلقّي الإرادات الإلهية التكوينية الجزئية في نشآتها النازلة، كما يتلقّي الإحاطة بالإرادات الكلّية عن المقام الروحي للنبيّ عن مقامه الغيبي ومن ذلك يظهر استحالة النبوّة مجرّدة عن الولاية كاستحالة تجرّد الحكم الاعتباري الشرعي وانفكاكه عن الإرادة الشرعية،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 441

فكما أنّ الحكم الشرعي من دون إرادة إلهية مستبطنة خلفه محال، فكذلك استحالة النبوّة والرسالة من دون تعقّبها بما يليها في المقام الغيبي وهي الولاية والإمامة.

ومنه يتّضح أنّ الشريعة لو اقتصر فيها علي سطح العلم الظاهر من فقه المعارف والأحكام وهو العلم الحصولي الكسبي بالشريعة الظاهرة من دون عمق العلم اللدني بالحقائق والإرادات الإلهية التكوينية وهو الولاية والإمامة الإلهية، لكان ذلك من قيام الاعتبار من دون نشأة الحقيقة التكوينية، وكان خيال وسراب محض، ولكن مثل الخضر عليه السلام من أقسام الولي الحجّة، وكذا مريم عليها

السلام.

كما تقدّم له الهداية الإراءية فهو محيط بالإرادات الكلّية حضوراً فكيف كان موسي أفضل منه؟ فهو باعتبار أنّ الولي الحجّة مع النبيّ صلي الله عليه و آله المتبوع له يتلقّي في القنوات الروحية عن ذلك النبيّ يتبعه، فالزهراء عليها السلام تتلقّي في الباطن الروحي عن المقام الروحي لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله. وعلي أساس هذا الفرق يتبين أكملية النبيّ حامل الشريعة الظاهرة علي التابع له الولي الحجّة الحامل للولاية وللشريعة بحسب الدرجة في النظام الكوني.

ثمّ إنّنا نلحظ في قضية الخضر أدباً إلهياً بعد الالتفات إلي أنّه أسند الأفعال تارةً إلي نفسه في: «أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا» لا إلي اللَّه تعالي، وأُخري إلي اللَّه في: «فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا» «1»

، وسرّ الاختلاف كما تبينه الرواية عن الصادق عليه السلام أنّ في القول الأوّل حيث كان الفعل معبّراً عن نقص فلم ينسب إليه تعالي تأدّباً، بخلاف الثاني، فلمّا لم يكن إلّاأمراً خيرياً نسب إلي اللَّه تعالي.

وبهذا يمكن أن نفهم الفرق بين موسي والخضر وأكملية الأوّل علي الثاني من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 442

بعض الجهات.

كما يمكن علي هذا الأساس أن نسجّل تعريفاً دقيقاً لكلّ من شريعة الظاهر ونظام التكوين، فالأُولي هي الإرادات الكلّية التكوينية الإلهية المتعلّقة بأفعال المختار بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع، وهو الأمر والإنشاء والاعتبار، والثانية هي الإرادات الجزئية المنحلّة من الإرادات الكلّية.

وهذه القصّة في واقعها أحد أوجه الفرق بين العلم النبويّ والعلم اللدني والتي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنّ العلم اللدني له مجال أوسع؛ إذ يشمل أولياء اللَّه الحجج وهو نوع من الاصطفاء، ويكون مقاماً أعمّ من الإمامة وأعمّ من النبوّة، فيشمل الزهراء عليها السلام ومريم عليها السلام التي لها نوع من الولاية، وبقية أولياء اللَّه

الحجج التي تشير إليهم الآيات القرآنية، لذا فهو يشمل النبيّ والإمام والحجّة الولي.

أمّا العلم النبويّ فإنّه يختصّ بالأنبياء، وهذا لا يعني التقاطع بينهما، بل إنّ النبوّة تلازم وجود شعبة من العلم اللدني للنبيّ دون العكس، ومن هنا قيل إنّ كلّ نبيّ وليّ وليس كلّ وليّ نبيّ؛ إذ لا يمكن للنبيّ أن يصل لنبوّته من دون أن تكون له شعبة من شعب العلم اللدني، ومن هنا قيل إنّ ولاية النبيّ أرفع من نبوّة نفس ذلك النبيّ، ويدلّلون في علوم المعارف أنّ الولاية هي غيبية دائماً وتكوينية، والنبوّة وإن لم تكن ظاهرية تماماً، إلّاأنّها بالإضافة إلي ولاية ذلك النبيّ تعتبر ظاهراً.

وبتعبير آخر: أنّ النبيّ بولايته يتلقّي من الباري ويعلم بالإرادات التكوينية ثمّ في تنزّلها تكون ظاهراً ورسالة، وهذا العلم اللدني هو المنشأ للظاهر ولا يشمل كلّ الإرادات التكوينية، كما يأتي الإشارة مفصّلًا في حقيقة التشريع.

أمّا التأويل الوارد ذكره في الآية الكريمة؛ فإنّ التأويل عموماً ورد في القرآن بعدّة استعمالات:

1- في سورة يوسف، تأويل الأحاديث والرؤيا، وأنّه لديه علم التأويل، وهذا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 443

لا يخصّ الرؤيا كما قد يبدو لأوّل وهلة، بل يعمّ كلّ ما يرتبط بالنشأة ما قبل الدنيا.

2- في قوله تعالي: «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» «1»

بلحاظ نفس الوجود الخارجي لحقيقة القرآن.

3- التأويل بلحاظ الوجودات والنشآت المختلفة، ومنه ما ورد أنّ الآخرة تأويل للدنيا.

4- التأويل الوارد في آية المحكم والمتشابه.

5- التأويل الوارد في هذه السورة، وهو تأويل ببيان الشريعة بحسب السنن الكونية الإلهية.

والتأويل مأخوذ من الأول والأوب وهو الرجوع والانتهاء، والغاية تأويل المغيا، وغاية الغاية تأويل الغاية، وهذا هو المعني الجامع بين هذه المعاني، وهو ما يعني تعاقب النشآت لبعضها البعض وجعل التالية غاية للسابقة، فما قبل

النشأة الدنيا غايتها النشأة الدنيوية، والبرزخ والآخرة هي غاية للدنيا، وعليه لا تكون التأويلات محصورة بل تتعدّد بتعدّد النشآت، وقد يحظي الأولياء الحجج ببعض أو كلّ هذه التأويلات حسب مقاماتهم.

في تفسير الخضر أفعاله لموسي، وقبل ذلك نعرض لنقطتين:

النقطة الأولي: علي صعيد التعليلات التي ذكرها الخضر لموسي يجب التوجّه إلي:

أ- إنّ مقام التعليل الغرض منه هو إقناع الطرف الآخر، ولذا يجب أن يذكر فيه علّة مشتركة علي مبني المتكلّم والسامع.

ب- إنّ فعل الخضر كان علي أساس مقام الولاية من الشريعة بحسب السنن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 444

الإلهية الكونية، واعتراض موسي كان علي أساس الشريعة الظاهرة من مقام النبوّة، ممّا يعني وجود مشترك بين درجتي الشريعة بحسب الظاهر ونظام التكوين؛ وإلّا لما كان تعليل الخضر مفهوماً لموسي، مع أنّا نلحظ أنّ موسي اقتنع بل انجلي له فظاعة ما تقدّم.

ج- يستنتج من هاتين النقطتين أنّ ما علّل به الخضر هو القاسم المشترك بين الشريعة الظاهرة والشريعة في السنّة الإلهية الكونية.

د- إنّ موسي اقتنع بما ذكر له الخضر وانجلي له صحّة الأفعال التي قام بها الخضر حتّي علي مستوي الشريعة الظاهرة.

ه- ومن هنا نستنتج حقيقة مهمّة في النسبة بين درجتي الشريعة، وهي أنّ السنّة الإلهية الكونية تطبيق للظاهرة، وأنّ النظام الكوني لا يلغي الظاهر بل هما متلاحمان، وأنّ الولاية إنجاز لأغراض النبوّة.

ومن هذه النتيجة يمكن أن نؤشّر علي ظواهر انحرافية هي تلك التي ألغت الظاهر بالنظام الكوني الإلهي، أو افترضت أنّ السنن الكونية لا تفهم بالظاهر أبداً ولو بتوسّط المعصوم، أو أنكرت العلاقة بينهما وأنّها مفترضة أجنبية ومغايرة، بل ناسخية الشريعة الكونية للظاهرة، وأنّ الولاية في الإمامة ناسخة للنبوّة بتوهّم أنّها نبوّة أُخري، وأنّ كلّ مقام غيبي فهو نبوّة.

النقطة الثانية:

من القواعد المهمّة التي تحكم الشريعة الظاهرة والتي تحتاج من الفقيه إلي تدبّر وتمعّن في الموازنة بين الأحكام الظاهرية، هي حالة التصادم بين الأحكام المختلفة وأي حكم يجب تقديمه في هذا المقام، وهو المعروف بين الفقهاء بالتزاحم، وقد ذكرنا مفصّلًا في بحث علم أصول الفقه التزاحم في الملاكات وفي مقام الامتثال والضوابط التي يجب مراعاتها في تقديم أي الملاكين، وقد أشرنا هناك إلي أنّ ما ذهب إليه العامّة من بحث المصالح المرسلة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 445

وسدّ الذرائع ما هو إلّانوع من التطبيق لمبدأ التزاحم، واختلافنا معهم في كيفية استكشاف الملاكات وفي طريقة التقديم، فهم قد اكتفوا بالملاكات الظنّية والتقديم الظنّي أو جعلوا ذلك ضابطة للتشريع الثابت.

وسوف نلاحظ أنّ الأفعال التي قام بها الخضر هي من باب التزاحم والسعي إلي حفظ الملاكات الواقعية التي خفيت عن النبيّ موسي، والتي لو كان قد علم بها لما اعترض عليه:

أوّلًا: خرق السفينة … ص: 445

وهاهنا سؤالان:

الأول: كيف ينسجم التعليل مع موازين الظاهر؟

الثاني: مع الانسجام ما هو الواقع في السنن الإلهية الكونية الذي اختصّ به الخضر؟

ففي هذا الفعل كان هناك ملاكاً مهمّاً سعي الخضر إلي المحافظة عليه؛ وهو حفظ مال المساكين من سطوة الحاكم الظالم، وهذا لم يكن موسي علي علم به، ثمّ في مقام التطبيق كان الأمر يدور بين عطب السفينة وبين تعييبها؛ إذ في كلاهما يتحقّق الغرض، ومن الواضح أنّ المحافظة علي الكلّ أولي من المحافظة علي البعض، فالخضر عمل بقاعدة التزاحم وهذا من موازين الظاهر أيضاً، لكنّه اختصّ بعلم وجود مصاديق التزاحم من اغتصاب الملك الظالم لكلّ سفينة.

ثمّ في كيفية التصرّف الذي قام به الخضر من دون إذن أصحابها، فيمكن القول فيه: إنّ التصرّف العقدي يحتاج إلي إذن صريح ورضا بالإنشاء،

أمّا التصرّف المجرّد غير العقدي كالأكل والشرب- فلا يحتاج إلي ذلك بل يكتفي فيه بالعلم بطيب النفس وإن لم يكن المالك ملتفتاً، ومن هنا تظهر النكتة في أنّ إذن الفحوي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 446

لا يحتاج إلي إبراز إنشائي، ومن الواضح أنّ المالك لو خير بين تلف العين أو صفة العين فإنّه سوف يختار الثاني.

فنلاحظ أنّ الخضر بالعلم اللدني علم أنّ الملك سوف يأخذ كلّ سفينة غصباً، فهو إعمال للعلم اللدني في تطبيق الشريعة الظاهرة، وهذا هو الحدّ الذي تعطيه الآية في العلقة بين الشريعتين، أو بتعبير أدق بين درجتي الشريعة، أي أنّ الشريعة بحسب السنّة الإلهية الكونية ومقام الولاية تسعي إلي التحفّظ علي الملاكات في الشريعة الظاهرة ومقام النبوّة بنحوٍ لا يقبل الخطأ، وتكون مصيبة دائماً.

ثانياً: قتل الغلام … ص: 446

والإشكال فيه كما ذكرنا سابقاً من جهة الاقتصاص قبل الجريمة، وكونه غلاماً لم يبلغ الحلم.

والجواب عنه نقضاً وحلّاً:

أمّا النقض فبوجود موارد يوجد فيها جواز للقتل من دون جرم، كما في حالات تترّس الكفّار بالمسلمين في الحرب فيجوز عند استهداف الكفّار للقتل حينئذٍ قتل المسلمين. وكما في حالات الدوران- علي بعض الأقوال الفقهية وإن لم يكن تامّاً عند المشهور المنصور من الرأي الفقهي- بين حفظ النفس ونفس أُخري أهمّ ملاكاً من الأُولي، فيرفع اليد عن وجوب حفظ أحد النفسين، ويحافظ علي النفس الأهمّ.

أمّا الحلّ: إنّ قوانين التزاحم التي تحكم الشريعة الظاهرة هي مختصّة في الحكمين الفعليين، أمّا في شريعة السنن الإلهية الكونية فإنّ التزاحم يطبّق حتّي في موارد الشي ء الفعلي والآخر المستقبلي، وهذا ما يحدث في العلم اللدني حيث يري أنّ الملاك الأهمّ بمراتب وإن كان ليس بفعلي يتصادم مع الملاك

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 447

الفعلي، وهذا وإن لم يكن ميزاناً

في ظاهر الشريعة لعدم حصول العلم بالشي ء المستقبلي لاسيما إذا كان متمادياً في طول الزمان.

والروايات تشير إلي أنّ اللَّه أبدلهما ببنت تزوّج منها نبيّ من أنبياء اللَّه وتسلسل منه سبعون نبيّاً، فلو بقي هذا الغلام لكان سبباً في كفر الأب، وبالتالي انقطاع النسل النبويّ، وهذا لا يمكن استعلامه بالشريعة الظاهرة، بل يتمكن منه من أُوتي العلم اللدني.

ثالثاً: الجدار … ص: 447

إنّ إشكال موسي هنا لم يكن في مؤاخذة إلزامية، بل كان لترك ما هو الأولي والأرجح.

ويلاحظ من التعليل الوارد في هذه الآية الشريفة أمران:

أ- إنّ الإرادة الإلهية ليست من سنخ إرادة اللَّه (كن فيكون)، بل إرادة في واقعها تتحقّق بالاختيار البشري، وبتوسّط البشر لا بتوسّط الملك أو مخلوقات أُخري.

ب- إنّ الملاك الأهمّ الذي أراد اللَّه عزّوجلّ حفظه هو ملاك ندبي، وهو كون أبيهما صالحاً، فأراد الحقّ تعالي إكراماً لهذا الأب الصالح أن يحفظ بصلاحه ذرّيته.

وهنا ننتقل للقول بأنّ الإرادة الإلهية كان لها هذا الدور من خلال هذه المنظومة في حفظ هذه الأغراض التي ليس لها تلك الأهمّية الإلزامية وتتّصف بالشخصية، فكيف بتلك الأغراض الجادّة المهمّة التي تؤدّي إلي انعطافات مهمّة في الدين والشريعة، فهذا يدلّنا علي وجود مجموعة من الأولياء ورجال الغيب الذين لهم تلك الخصوصية من الاطلاع علي العلم اللدني وتكون وظائفهم حفظ الأغراض التي يوليها الشارع تلك العناية، وأنّ الحقّ تعالي لا يوكل الأمر إلي مجموع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 448

الاختيار البشري، بل إنّ هذه المجموعة هي التي تسعي بالمجموع للوصول إلي مقاصد الشريعة.

والأمر المهمّ الذي نستفيده من هذه التعليلات أنّ الشريعة الكونية والسنن الإلهية التكوينية تطبيق للشريعة الظاهرة، وأنّ الهداية الإيصالية في الشريعة الكونية هي إقامة خفية للشريعة الظاهرية، فلا يُكتفي بالهداية الإرائية، بل تكون إلي

جنبها الهداية الإيصالية، وأن لا تترك الأُمور إلي الصدف، بل تكون هناك يد غيبية لأجل المحافظة علي تحقيق الأهداف والأغراض.

وقوله تعالي «عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا»، يؤكّد أنّ الخضر ليس وحيد سنخه، وإنّما هنالك منظومة من الأبدال والأوتاد والأولياء قد زوّدوا بالعلم اللدني، وأنّ من جملة وظائفهم تحقيق الأغراض التي هي الملاكات وغايات الشريعة الظاهرة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 449

فوائدالفائدة الأُولي: حقيقة التشريع … ص: 449
اشارة

إنّ قضية الخضر مع النبيّ موسي وما اختصّ به كلّ منهما من الكمالات يستدعي التعمّق قليلًا في بيان حقيقة التشريع السماوي الذي أوتيه النبيّ موسي عليه السلام وحقيقة العلم الذي أوتيه الخضر، وأنّ هذه القصّة لا تدلّ علي أفضلية الخضر علي النبيّ موسي من كلّ جهة، بل هو تابع له في شريعته السماوية.

لقد سعي الأصوليون خلال سنين متعدّدة إلي تركيز النظر في حقيقة الحكم الشرعي والمراحل التي يمرّ بها، وإذا كان تسليط الضوء علي أحكامه في الفترة التي تعقب صدوره من الناحية المقدّسة عن طريق الرسول صلي الله عليه و آله، فإنّ المراحل التي تسبق مرحلة الإنشاء كانت أيضاً محلّ بحث وتأمّل بين العلماء، وكان السؤال الذي دار في أذهانهم ما هو الارتباط بين عالم الاعتبار وعالم التكوين؟ وهل هما منفصلان بعد المفروغية من أنّ الاعتبار يستتبعه التكوين والفعل الخارجي لكنّ الكلام في المرحلة السابقة؟

* فذهب جمهرة من الأصوليين إلي أنّ الإرادة الإلهية التكوينية هي الأساس لهذا التشريع والاعتبار، بمعني أنّ وراء الاعتبار إرادات تكوينية متعلّقها ليس الفعل الخارجي، بل متعلّقها إنشاء الحكم واعتباره، وهي بالتأكيد تسبق الاعتبار والحكم التشريعي، وكلّيتها متعلّقها هو الاعتبار والإنشاء أو جعل حكم كلّي.

وذهب المحقّق النهاوندي في تشريح الأصول إلي أنّ الأحكام الشرعية ليست

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 450

أحكاماً اعتبارية، بل هي إرادات تكوينية

تشريعية، ومتعلّقة بفعل المكلّف، وتبعه المحقّق العراقي. وأنّ الأحكام الشرعية التكليفية إرادات تكوينية سابقة علي النشأة الأرضية، والإنشاء مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

وعلي كلّ حال، فسواء جعلنا الإرادة التكوينية هي منشأ الشريعة الظاهرة أو أنّها هي، فإنّ هذه الإرادات ليست حالة في الذات، بل هذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل من اللوح والقلم. حتّي تصل إلي نفس النبيّ أو الوصيّ أو الوليّ الحجّة، وأن إراداتهم هي إرادة اللَّه ومشيئاتهم مشيئات اللَّه.

* نبّه الأصوليون إلي أنّ الأحكام قسمان: الشرعية الاعتبارية والأحكام التكوينية. فالأُولي تكون علي صيغة القضايا الحقيقية، وهي تنحلّ إلي قضايا جزئية في موارد عديدة، وبالمقابل في الأحكام التكوينية، أي أنّ الأحكام التكوينية الكلّية تنحلّ إلي أحكام تكوينية جزئية تكون وراء كلّ حكم شرعي جزئي، وقد نبّه أهل المعرفة علي ذلك.

* وقد أشارت الروايات وفسّرها أهل المعرفة والحكمة- إلي أنّ الأمر والشأن من اللَّه في تنزّله إلي العوالم السفلية يتمّ عبر مراحل، ويعبّرون أنّها تتمّ عبر لوائح تكوينية وأقلام تكوينية، وكلّما كانت النشأة أكثر علوية كانت الإرادات الإلهية فيها كلّية، وكلّما تنزّلت هذه الأوامر الإلهية في اللوائح النازلة كلّما ضيّقت وقدّر وصارت ليلة القدر أي ليلة التحديد.

* إذا التفتنا إلي النكات السابقة نستطيع معرفة الفارق المحوري بين الشريعة في الدرجة الظاهرة والكونية ونظام التكوين، وبين مقام صاحب الشريعة بالدرجة الظاهرة، وبين مقام صاحب شريعة السنن الكونية الإلهية.

فإنّ النفس النبويّة تتلقّي الإرادات الكلّية التشريعية الإلهية في لوائح ونشآت عالية، ويكون لها علم بتلك الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا صاحب النفس الولوية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 451

والشريعة الكونية فإنّه يتلقّي الإرادات الإلهية الجزئية التكوينية في اللوائح والنشآت النازلة.

وبناءً عليه نري أنّ الذي يطّلع علي تلك

الإرادات الكلّية يكون أفضل مقاماً من الذي يطّلع علي الإرادات الجزئية فقط، ولا يكون له اطّلاع علي تلك الكلّيات إلّا من خلال الإرادات التشريعية الواردة عن طريق النفس النبويّة، ومن هنا نقول إنّ هؤلاء الأولياء الحجج يكونون تابعين لصاحب الشريعة النبيّ الذي في زمانهم؛ وذلك لأنّ تلك الإرادات الكلّية تكون عن طريق تلك النفس النبويّة في عهده.

ومن ثمّ إنّ النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله يكون واسطة في تلقّي الأئمّة عن طريق الملكوت والأرواح التي هي مرتبطة بعالم الأمر والملكوت، لا عن طريق الحسّ والظاهر.

وبتفاوت النبوات وأفضليتها تتفاوت مقامات التابعين والأولياء، ويمكن أن نفهم الفرق بين موسي والخضر وأكملية الأوّل علي الثاني، مع عدم علم موسي ببعض ما عند الخضر.

كما يظهر تعريف آخر للشريعة الظاهرة: أنّها الإرادات الكلّية الإلهية ومتعلّقها أفعال المكلّفين المختارين بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع وهو الأمر والإنشاء والاعتبار. والشريعة في السنن الإلهية الكونية: أنّها الإرادات الجزئية المنحلّة من تلك الإرادات الكلّية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 452

كما يعلم الحال في غير المعصومين وأنّ فقهاء الشريعة إنّما يصلون إلي الحكم الظاهري في الشريعة الظاهرة عن طريق الطرق والإمارات الشرعية، بينما النبيّ يكون له اطّلاع مباشر علي الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا الفقيه فلا يحيط بذلك فضلًا عن الاطّلاع علي الإرادات الجزئية، ويفهم من ذلك أنّ مجرّد الحصول علي الملكة الكسبية لا يعني الاطّلاع والوصول إلي تلك الإرادات الكلّية ولا الجزئية، فلابدّ أن يكون تابعاً إلي صاحب الولاية.

الفائدة الثانية: … ص: 452

وتتضمّن تحليل أدبي لغوي فلسفي لأدب من الآداب الإلهية، أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في رواية ذكرها صاحب نور الثقلين، وهي تتعلّق بملاحظة طريقة تفسير الخضر لأفعاله واختلاف نسبة الأفعال في الوقائع الثلاث، ففي قصّة السفينة

قال: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا»، وفي قضية القتل قال: «فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا» «1»

، وفي واقعة الجدار قال: «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا …».

فنلاحظ أنّه تارةً يسنده إلي نفسه، وتارةً للمجموع، وثالثةً للَّه عزّوجلّ، والملاحظ أنّه في الأفعال الخيرة يسند الفعل للَّه عزّوجلّ، وفي الأفعال التي ظاهرها النقص يسندها إلي نفسه أو إلي من هو مثله. فالإعابة والقتل والخشية من أفعال الآدميين، والإرادة والإبدال هي من أفعال اللَّه عزّوجلّ، فمع أنّ الكلّ من عند اللَّه عزّوجلّ إلّاأنّه في مقام التأدّب معه تعالي لا يسند ما ظاهره النقص له

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 453

تعالي.

أمّا المجموع في (فخشينا) فلا يمكن أن يريد الخضر نفسه، والجمع بلحاظ التفخيم؛ وذلك لأنّ الخضر لا يفخّم نفسه في قبال اللَّه تعالي، ولا أيضاً في قبال موسي، مضافاً إلي أنّه في الشريعة للسنن الكونية الإلهية يُراعي دقّة الحقائق لا المجازات، وإذا أخذنا في عين الاعتبار ما ورد في صدر القصّة من عبادنا، فنعلم أنّ المراد من الخشية هنا هو مجموع رجال الغيب، وهي مجموعة تسالمت المذاهب المختلفة علي وجودها وإن اختلفت تسميتها من الأبدال والأوتاد والسياح والأركان، وأنّ هذا العلم لا يختصّ بالخضر بل إنّ تلك العلوم يزوّد بها رجال هذه المنظومة، فهم وإن كانوا غير موكّلين كلّهم بهذه المهمّة إلّاأنّ العلم بهذا العلم يولد خشية لدي الجميع، وإن كان التنفيذ مختصّاً بواحد منهم، وكأنّه ينوب عنهم في تأدية هذا الفعل.

إنّ هذا الأدب الإلهي الذي أشرنا إليه فيما مضي أيضاً في طلب موسي من الخضر وإجابة الخضر له، إنّما يدلّ علي جذر عقائدي يدعم ويولّد تلك المعرفة التي يكون تلفّظ الإنسان بها وخطابه مع الذات المقدسة بما يتلاءم مع مقام الذات

وتنزّهها عن المعايب والنواقص، وقد أشار علماء المعرفة إلي هذه النكتة في موارد عدّة، مثلًا في صفة الكرم يرجعونها إلي أنّ الاعتقاد بحسب الفطرة بأنّ فيض وجود اللَّه عزّوجلّ وكمالاته غير متناهية، فالرزق والعطاء لا يكون محدوداً، ومنه ينشأ صفة الكرم.

وهكذا صفة الشجاعة فهي تعود إلي مقام توحيدي بالاعتقاد بأنّ القدرة الحقيقية كلّها ترجع إليه سبحانه، وبالتالي لا يكون هناك أحد مالكاً للقدرة إلّا بإقدار منه، فينشأ من هذا الاعتقاد عدم خشية الإنسان من أحد، وإذا شاهدنا أمثال هذه الصفات من أحد فإنّها تنمّ عن مقدار من التوحيد بنحو الإجمال البسيط في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 454

فطرته، بل ما ورد في سورة البلد يدلّ علي أنّ الصفات الحميدة دالّة علي الإيمان:

«فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» «1».

ولا يخفي أنّ هذا الأدب ليس مجرّد مجاملات شكلية، وإنّما يعتمد أساساً علي قاعدة تمّ مراعاتها من قبل الخضر، وهو ما أشار إليه القرآن من نسبة السيئة إلي العبد ونسبة الحسنة إلي اللَّه مع كون كلّ منهما من عند اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 455

المقالة الثانية التصدّي الفعلي الخفيّ للإمام في عصر الغيبة لإدارة وتدبير النظام الاجتماعي البشري … ص: 455
اشارة

وهذا التصدّي الفعلي الخفي السريّ المستتر ليس خاصّاً بعصر الغيبة وليس خاصّاً بالإمام المهدي (عج)، بل هو من لدن إمامة آدم عليه السلام وأوصيائه، وإمامة نوح وإبراهيم إلي إمامة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله قبل بعثته وأثناء حكومته الظاهرية، وأمير المؤمنين عليه السلام قبل حكومته الظاهرية وأثناءها أيضاً، وكلّ الأئمّة عليهم السلام إلي عهد إمامة المهدي (عج) في عصر غيبته، ونلحظ هذه الحقيقة في شؤون الإمامة الإلهية من خلال

نموذج الخضر.

فنلحظ أنّ الخضر قد نسب ثالثة الفعل إلي المجموع في قوله (فخشينا، فأردنا)، وهو ينسجم مع قوله: «عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا» الظاهر في أنّ الخضر واحد من مجموعة قد زوّدوا بالعلم اللدني وكُلّفوا للمحافظة علي أغراض الشريعة الظاهرة بتطبيقها، فالخشية هي خشية المجموع، وإرادة الجميع تدلّ علي أنّ ما قام به الخضر واجب كفائي قد انبري الخضر لأدائه.

بعد كلّ هذا. يمكن أن يسجل هذا السؤال معترضاً علي فكرة الولاية و (النزعة الملكوتية والخفاء) في الإمامة، وفكرة الجماعة المزوّدة بالعلم اللدني الموظّفة بما ذكرناه والتي يديرها الإمام عليه السلام، وفكرة أنّ قوام الإمامة المقوّم لها هو الهداية الإيصالية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 456

والسؤال: إنّ ما ذكر لا يظهر من الكتاب والسنّة المستفيضة، وهو لا يعدو تنظير الصوفية، والذي خلاصته: تشابك الأرواح والنفوس علي شكل منظومة هرمية تستبطن عدة خلايا ترتبط جميعها بالإمام، والذي اختلفت تعبيراتهم عنه بين القطب والغوث والإمام.

وقد جاء ما يوازي هذا الفهم في تعبير الفلاسفة والذي برهنوه عقلًا- بسلسلة الارتباط العلي الوجودي.

ومعه لا يمكن أن تأخذ هذه الأُطروحة مجالها في الفكر الشيعي ما لم تصبغ بصبغة دينية وتكون ذات غطاء قرآني روائي، وهو مفقود.

ومن ثمّ لابدّ من الاقتصار علي أنّ الإمامة منصب إلهي يعني المرجعية الدينية (الهداية الإرائية) والزعامة السياسية، مع قبول ارتباطه بالغيب وتزويده بالعلم اللدني؛ فإنّ هذا القدر هو الظاهر من القرآن والسنّة.

والجواب: إنّ الموجود عند الصوفية لا يتجاوز بذوره ومبدأ نشأته القرن الثالث، بل بلورته كنظرية جاءت في أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن، مع أنّ الروايات في هذا المجال أسبق بكثير من هذا التاريخ فضلًا عما في القرآن وكلمات الرسول صلي الله عليه و آله والأمير عليه السلام وبقية الأئمّة

عليهم السلام بل إنّ معظم ما لدي الفرق الصوفية والعرفاء هو طفيل ووليد عن فرق الغلاة الشيعية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الأوّل وفي القرن الثاني والثالث الهجري، بينما فرق الصوفية متأخّرة زمناً عن فرق الغلاة، بل إنّ سلسلة مشايخ الصوفية جلّها تنتهي إلي غلاة الشيعة وجملة من هؤلاء الغلاة لا كلّهم- كانوا أصحاب سرّ في المعارف لدي أئمّة أهل البيت عليهم السلام- غاية الأمر لم يحالفهم الحظ أن يبقوا علي الاستقامة، كما حصل مع بلعم بن باعورا حيث آتاه الباري تعالي بعض حروف الاسم الأعظم: «آتَيْنَاهُ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 457

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا» «1».

فلم يكن خلاف الحكمة الإلهية إعطاءه الآيات من الاسم الأعظم مع علم الباري في الغابر أنّه لن يستقيم، ولكن الإعطاء الغيبي من الباري لبلعم بن باعورا حجّة عليه بعد استحقاقه في ظرف الاستقامة للعطية الغيبية الإلهية، وفي ذلك حكم أُخري منه تعالي، مثل تنبيه البشر علي أنّ من يتّق اللَّه يجعل له فرقاناً، واتّقوا اللَّه يعلمكم، أي تنبيههم علي وجود علوم غيبية ليست في متناولهم.

وأنّ نشأة الغيب نشأة لا تنزف ولا تنفذ كما ورد في الحديث القدسي:

«لأعطين الحكمة من زهد في الدنيا، فأمّا المؤمن فهي حجّة له، وأمّا الكافر فهي حجّة عليه» «2».

هذا وغيره هو وجه الحكمة في تربية أهل البيت عليهم السلام بعض أصحاب السرّ أيام الاستقامة مع علمهم بما سيؤول حال أُولئك الأصحاب، هذا مع أنّ جملة كثيرة أُخري من أصحاب السرّ بقوا علي الاستقامة، كسلمان الفارسي وكميل بن زياد النخعي وميثم التمّار ورشيد الهجري وحبيب بن مظاهر وجابر بن يزيد الجعفي ويونس بن عبد الرحمن وذريح المحاربي، وغيرهم.

وعلي أي تقدير، فما عند الصوفية من سمن إذا فصل

عن الغثّ، أو صواب أسرار المعرفة فإنّما تلقوا وأخذوا جذوره من فرق الشيعة، ومن ثمّ قالت أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان عن الصوفية والتصوّف إنّه قنطرة التشيع.

وبالإضافة إلي أنّ الصوفية لا يعدون ذلك من مبتدعاتهم أو ما ثبت لهم بالمكاشفة فقط، وإنّما ينسبون ذلك إلي أمير المؤمنين عليه السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 458

وبالتالي فما ذكرناه لا يمثّل اختراقات الفكر الصوفي السنّي للفكر الشيعي، وإنّما هو تأثيرات الفكر الشيعي علي الفكر السنّي المتمثّل بهذه الطبقة.

ومن ثمّ نفهم الحسّاسية البالغة عند فقهاء السنّة ومحدّثيهم من صوفيتهم، حيث تجرّ أطروحة الصوفيين الفكر السنّي إلي الفكر الشيعي، وتجعل من مبدأ الإمامة الشيعي ضرورة، فحاولوا الطعن عليهم بأنّهم متأثّرون بالاتّجاه الباطني وهو الشيعة، مستهدفين بذلك تجريد الأُطروحة من الدليل والشرعية.

فقد جاءت الباطنية في كلماتهم في سياق الذمّ وأنّها منقصة، ومن ثمّ نسبوها إلي أئمّة أهل البيت، حتّي قال بعضهم: إنّ نسبة الباطنية إلي عليّ عليه السلام لها وجه، وأمّا نسبتها إلي جعفر بن محمّد فلا ريب فيها.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ ما ذكر مديح للأمامية بأنّهم يؤمنون بالغيب، وأنّ فكرة الباطنية بمعني الاعتقاد بعالم ونشأة الغيب والارتباط به واشرافه علي عالم الشهادة من دون التنكّر لعالم الغيب، كما هو مذاق المادّيين الحسّيين، هي أطروحة الشيعة لا من مستورداتهم، سوي أنّ هذه الفكرة قبلتها الشيعة بالشكل الذي مرّ، وهو حفظ التوازن بين البطون والظهور وعدم تغليب أحدهما علي حساب الآخر، وبين التأويل كحقيقة قرآنية بيد الراسخين في العلم وهم أهل آية التطهير وبين ظهور الكتاب وبين تنزيل الكتاب في المصحف الشريف بين الدفّتين وبين القرآن المجيد في نشأة اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون والكتاب المبين الذي يستطرّ

فيه كلّ شي ء الذي هو حقيقة قرآنية يجب الإيمان بها علي حدّ الإيمان بالمصحف بين الدفّتين، وإلّا لكان من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر.

فالباطن والبطون هو الغيب الذي ليس منالًا لكلّ أحد كما يدّعيه الصوفية، بل هو في موقعه القطبي المركزي خاصّ بعترة النبيّ المطهّرة، فالإيمان بالظاهر دون الباطن كالإيمان بعالم الشهادة والكفر بعالم الغيب ومن الإيمان بالحسّ والإنكار

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 459

بما وراء الحسّ كما يصنع أصحاب مدرسة الحسّ والمادّة، غاية الأمر أنّ البطون وورود هذه العوالم الغيبية لا تتسنّي إلّالمن شهد له القرآن بالقدرة علي ذلك، وهم المطهّرون أهل آية التطهير، وأمّا غيرهم فلابدّ من إقامة البرهان وميزان الدلالة في الوصول إلي بعض المعاني المحدودة اليسيرة من التأويل.

وأمّا دلالة الكتاب والسنّة علي ما ذكر من معني الإمامة الإلهية مضافاً إلي ما تقدم في الفصل الثالث من الجزء الأوّل من شواهد قرآنية من الكتاب والسنّة القطعية والأدلّة العقلية والفطرية، نشير إلي شواهد أُخري علي هذا التوسّع والإضافة في معني الإمامة الإلهية الذي نحن بصدده في هذا الفصل.

الشاهد الأوّل: قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ …» «1»

، فإنّ الخليفة عنوان من عناوين الإمام المدبّر المتصرّف في الأرض وبجعل تكويني إلهي، كما تقدّم في الفصل الثالث شرح هذه الآيات مبسوطاً. وموضع الاستشهاد في المقام يتبين عبر النقاط التالية:

الأولي: هو أنّ أوّل تعريف ذكره الباري للخليفة هو ذكر اعتراض الملائكة (الافساد في الأرض، وسفك الدماء) بمثابة الجنس والفصل لتعريف الخليفة، فما هي الصلة الوثيقة بين تعريف الخليفة والإمام في الأرض وبين هذين الاعتراضين؟ فلابدّ ثمّة من ارتباط وثيق بينهما أراد أن ينبّه الباري

تعالي عليه حيث إنّ القرآن الكريم في مقام تعريف الخليفة والإمام.

الثانية: إنّ اعتراض الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء لابدّ أن يراد منه المقدار الغالب من الافساد وسفك الدماء بمقدار أكثري؛ وذلك لأنّ الفساد الأقلّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 460

في مقابل الإصلاح والصلاح الأكثر ليس مذموماً بل راجح، كما أنّ سفك الدماء القليل بالقياس إلي مجموع عدد البشرية الكبير وبنحو مانع عن انقراض النسل ليس قبيحاً، بل حسن، فلابدّ أن يكون مصب الاعتراض هو بالفساد الكثير وسفك الدماء الأكثر، أي الشرّ الكثير في مقابل الخير القليل، لا الاعتراض بالشرور القليلة في مقابل الخيرات الكثيرة، فهذا المعني هو الذي اعترض به الملائكة علي جعل الخليفة.

الثالثة: إنّ من الواضح أنّ المجي ء بالاعتراض الملائكي والمحذور الذي تخوّف منه الملائكة في أصل سياق تعريف خليفة اللَّه في الأرض هو لبيان أنّ هذا الخليفة من أبرز خواصه ومهامه وآثاره أنّه بوجوده دارئ ممانع عن وقوع هذا المحذور، وذلك عبر عملية استخلافه وتصرّفه من قبل اللَّه أي قيامه بالتدبير فيما استخلف فيه، فبتدبيره وتصرّفه في الأُمور يحول دون انفراط النظام الفطري الإلهي للنظام الاجتماعي البشري، وبذلك يحول دون وقوع الفساد والإفساد في الأرض في كلّ المجالات، سواء البيئي والصحّي والزراعي والاقتصادي والأخلاقي والأمني والعسكري والتجاري، وكذلك يحول دون وقوع سفك الدماء الغالب المبيد للنسل البشري.

فهو بتدبيره في النظام العام يقوم بمهمّة الاستخلاف وهي حكومة النظام العالمي البشري في ضمن حكومة موحّدة تدفع بالنظم البشرية في البلدان إلي تقارب نظام عالمي موحّد علي أساس الفطرة البشرية والرعاية الإلهية والعناية السماوية، ومن ذلك يظهر سرّ نزول كلّ ملفّات التقدير والقضاء سنوياً في ليلة القدر علي صاحب الأمر، والذي قد تقدّم مفصّلًا بيانه في الرافد

الخامس، فإنّ هذا الكم المعلوماتي الهائل عن وضع البشرية السنوي في كل عام الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها في جدول إحصائي لسياسات الحكومة الإلهية يقوم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 461

برئاستها ولي الأمر في ليلة القدر.

من ذلك يتّضح أنّ الملف القرآني لليلة القدر بمجموع السور والآيات المتعرّضة لحدث ليلة القدر في كلّ عام وما يتنزّل فيها هو دليل مستقلّ برأسه علي هذه المهمّة الخطيرة الموكلة لوليّ الأمر الإمام المعصوم عبر الاستخلاف الإلهي، إذ إرسال هذا الحجم الخطير من المعلومات الحسّاسة عن الوضع البشري في كلّ شؤونه لكلّ سنة مستقبلة في ليلة القدر هو عمل من الاستراتيجيات الأوّلية في الحكم والحكومة للنظام البشري، وبنية ضرورية أساسية من أركان الحكومة في منظومة الاجتماع البشري.

وبتوسّط ذلك الملف من المعلومات وعبر المنظومة الخفية لجهاز الحكم يتمّ إنجاز وإنقاذ السياسات الإلهية في حكم والحكومة علي النظام البشري بحيث يحول دون وقوع الفساد والإفساد الغالب في شتّي مجالات النظم البشرية.

وربما يُطرح في المقام تساؤلان:

الأوّل: إنّنا نري ونشاهد في طيلة التاريخ البشري مظاهر وأنظمة من الفساد والافساد في الأرض وأنواع الظلم العاتي والحروب المبيدة للنسل البشري، وفي عصرنا الراهن البشرية في شتّي البلدان قابعة تحت أنظمة الظلم والجور والعدوان، إضافة إلي تحريف الأديان وابتداع المذاهب والسنن الباطلة، وتفشّي الزيغ والأهواء، فأين هذا الحائل، وأين الطامس لآثار الزيغ والعدوان وأين المبيد للظلمة وأين صاحب راية الهدي؟

الثاني: إنّه علي ضوء وجود مثل هذا التصدّي من قبله (عج) لتدبير أُمور البشرية فما الفرق بين التدبير الخفي في الغيبة وبين حكومته المباركة بعد الظهور، لاسيما أنّ ظهوره بعد أن تُملئ الأرض ظلماً وجوراً، وذلك يعني وقوع المحذور الذي تخوّفت منه الملائكة ولو في برهة من الزمن؟

كما أنّه مع وجود هذا التدبير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 462

الخفي من قبل جميع الأئمّة عليهم السلام فأي معني لإزوائهم عن سدّة الحكم والتصرّف في الأُمور؟ ولماذا لم يستطيعوا بهذا التدبير الخفي إرجاع الأُمور إلي نصابها؟

والجواب: إنّما يُلاحظ في تاريخ البشرية إلي عصرنا الحاضر رغم كلّ سلسلة الطغيان وسفك الدماء والعدوان والجور في المجالات العديدة والبقاع المختلفة، إلّا أنّه لم يكن بطابع الحالة المستمرّة، بل نري الإصلاح ينقض عليه وإن كان نسبياً فلا يبقيه، كما لا يدع له مجالًا لأن يكون غالباً، وكذلك الحروب التي اصطلت بها البشرية ما كانت تتمادي لتفني النسل البشري.

بل إنّ سلسلة وقافلة ومسار الرقي الفطري البشري وحاكمية القيم الفطرية علي العقل والوعي البشري آخذة في الازدياد جيلًا بعد جيل، وإن كانت ممارسة أصحاب القدرة والحكومات الوضعية يزداد بها المارد الشيطاني عتوّاً وفساداً ويعيثون في الأرض عدواناً وفجوراً، وبذلك نلحظ أنّ الفساد ليس هو الأغلب؛ فقد مرّت البشرية في عصور مظلمة مدلهمة لكن لا يتمّ لها الإصلاح والتطوّر الشامل الكامل والمدينة الفاضلة المثالية إلّابتسلّم خليفة اللَّه في أرضه زمام كافّة مقاليد القدرة والإدارة في كلّ مراتبها وشؤونها ولا تقتصر علي المرتبة الخفية، وستأتي الإشارة في الروايات المروية من الفريقين إلي ذلك وتتمّة إيضاح لهذا الأمر.

الشاهد الثاني: مجموع السور والآيات التي سبق استعراضها في الفصل السابق حول ما ينزل في ليلة القدر، والتي ينزل فيها ملفّات تدبير للنظام البشري وصلة ذلك في التدبير الخفي لولي الأمر في النظام البشري الذي تتنزل عليه الروح والملائكة كلّ عام، كما ألمحنا إلي ذلك في الشاهد الأوّل.

الشاهد الثالث: قوله تعالي للنبيّ إبراهيم عليه السلام: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 463

فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

إِمَامًا» «1»

، وصريح الآية هو أنّ الجعل فعلي منه تعالي للإمامة الفعلية لإبراهيم، مع أنّه في الظاهر المعلن من التاريخ لم يتقلّد النبي إبراهيم حكومة معلنة وسلطة رسمية في بلد من البلدان، فهذه الإمامة للبشر لابدّ أن يكون تدبيرها الفعلي للنظام البشري لا يقتصر علي السلطة الرسمية المعلنة، بل يشمل التدبير السياسي الاجتماعي الخفي، مضافاً إلي هداية الأرواح والنفوس لإيصالها إلي المنازل المعنوية في الكمال، وكذلك قوله تعالي: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3».

فهذا الوصف للجعل الإلهي الفعلي لإمامتهم بالفعل إمامة إسحاق ويعقوب- مع أنّهم لم يتقلّدوا زمام أي سلطة رسمية في التاريخ، وقد ورد في روايات الفريقين حول حياة النبيّ إبراهيم من لقائه أولياء اللَّه في شتّي أقطار الأرض، وأنّه كان علي اتّصال وارتباط معهم.

هذا مضافاً إلي النقلة الحضارية التي أحدثها النبيّ إبراهيم في الخطّ الأدياني والقانوني للبشر في العراق وبلاد الشام وأرض الحجاز ومصر، كما هو الحال في دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام في إرساء رحي عقائد الإيمان ومعالم الدين وما نشروه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 464

وشيدوه من معارف وأحكام الدين والتي كانت مجهولة لدي المسلمين في عصر النبيّ صلي الله عليه و آله، حيث لم يتلقّها عن النبيّ إلّاالعترة بالعلم اللدني لا مجرّد السماع الحسي.

الشاهد الرابع: قصّة الخضر في سورة الكهف والتي تقدّم بيان جملة من شؤونها، وتأتي تتمّة ذلك.

الشاهد الخامس: جملة النماذج القرآنية الأُخر التي سيتمّ استعراضها لاحقاً، وموضع الاستشهاد فيها من إحدي زواياها المبينة لنحو التدبير الخفي لنماذج الإمامة

في النظام البشري وتأثيرهم في المنعطفات الحضارية في المسار البشري.

أمّا الشواهد الروائية فنذكر نبذة من الروايات يتفطّن منها المتتبّع للوقوف علي جملة وافرة متكاثرة متضمّنة لنفس المعني:

منها: ما ورد في دعاء رجب الذي رواه الشيخ الطوسي، من التوقيع من الناحية المقدّسة علي يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمّد بن عثمان أبي سعيد (رضوان اللَّه تعالي عليه)، حيث فيه: «صلّي علي محمّد وآله وعبادك المنتجبين وبشرك المحتَجِبين وملائكتك المقرّبين والبهم الصافين الحافين..» «1»

، فوصف أنّ هناك جماعة من البشر مُحتَجبين ومستترين عن الأنظار، بمعني أنّ الناس لا تعرفهم.

ومنها: ما رواه الشيخ في المصباح في دعاء أُمّ داود: «صلّ علي الأبدال والأوتاد والسياح والعباد والمخلَصين» «2».

ومنها: ما ورد في زيارته (عج) في سرداب الغيبة: «اللّهمّ صلّي عليه وعلي خدّامه وأعوانه علي غيبته، ونأيه واستره ستراً عزيزاً، واجعل له معقلًا حريزاً» «3».

ومنها: ما ورد في دعاء زيارة العسكريين عليهما السلام في زيارة الإمام أبي محمّد الحسن العسكري في الدعاء عقبها، حيث فيه: «وأتوسّل إليك يا ربي بإمامنا ومحقّق

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 465

زماننا اليوم الموعود والشاهد المشهود والنور الأزهر والضياء الأنور المنصور بالرعب والمظفر بالسعادة … اللّهمّ واحشرنا في زمرته واحفظنا علي طاعته واحرسنا بدولته وأتحفنا بولايته وانصرنا علي أعدائنا بعزّته» «1».

فيشير الدعاء إلي طلب الحراسة الفعلية منه تعالي من قبل كلّ مؤمن وذلك بتوسّط الدولة الفعلية الخفية له (عج)، وطلب النصرة علي الأعداء بتوسّط عزّته، أي بطلب قدرته الفعلية.

ومنها: الدعاء المعروف للحجّة (عج): «اللّهمّ كن لوليك الحجّة بن الحسن العسكري صلواتك عليه وعلي آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلًا وعيناً، حتّي تسكنه أرضك طوعاً وتمكّنه فيها طويلًا» «2»

. فإنّ الدعاء بالنصرة في

هذه الساعة الفعلية وطوال فترة الغيبة حتّي الظهور يقضي بوجود كيان فعلي يتجاذب مع القوي الراهنة في الأنظمة البشرية، وكذلك الدعاء بالقيادة الإلهية يقضي بوجود حركة فعلية تحتاج إلي الدلالة الإلهية.

ومنها: ما رواه المجلسي في البحار عن مؤلّفات أصحابنا، بسنده عن المفضل بن عمر في حديث قال: قال الصادق عليه السلام: «أحسنت يا مفضل فمن أين قلت برجعتنا؟

ومقصرة شيعتنا تقول معني الرجعة أن يردّ اللَّه إلينا ملك الدنيا وأن يجعله للمهدي (عج)، ويحهم متي سُلبنا الملك حتّي يردّ علينا.

قال المفضل: لا واللَّه وما سلبتموه ولا تسلبونه لأنّه ملك النبوّة والرسالة والوصية والإمامة» «3».

ومنها: ما رواه في البحار من زيارة طويلة لأئمّة البقيع وفيها: «اللهمّ صلِّ علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 466

الإمام الوصيّ والسيد الرضي والعابد الأمين، عليّ بن الحسين زين العابدين إمام المؤمنين ووارث علم النبيين، اللهم اخصصه بما خصصت به أوليائك … وسلك بالأُمّة طريق هداك، وقضي ما كان عليه من حقّك في دولته، وأدّي ما وجب عليه في ولايته، حتّي انقضت أيّامه وكان لشيعته رؤوفاً وبرعيته رحيماً» «1».

ومنها: ما رواه الصدوق في الفقيه في استحباب الجماع ليلة الجمعة من الحديث النبويّ: «وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة فإنّه يرجي أن يكون الولد من الأبدال إن شاء اللَّه تعالي» «2».

ومنها: ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن عمر بن واقد في حديث استشهاد الإمام موسي بن جعفر عليه السلام ووصيته للمسيب بن زهير ومجي ء الإمام الرضا عليه السلام لتغسيل والده من المدينة إلي بغداد بطيّ الأرض، قال: «فواللَّه لقد رأيتهم بعيني وهم يظنّون أنّهم يغسلونه أي السندي بن شاهك وجماعته من جلاوزة النظام العباسي- فلا تصل أيديهم إليه، ويظنّون أنّهم يحنّطونه

ويكفّنونه وأراهم لا يصنعون به شيئاً، ورأيت ذلك الشخص أي الإمام الرضا عليه السلام- يتولّي غسله وتكفينه وتحنيطه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه، فلمّا فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: يا مسيب مهما شككت فيه فلا تشكنّ فيّ؛ فإنّي إمامك ومولاك وحجّة اللَّه عليك بعد أبي، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق عليه السلام ومثلهم مثل أخوته حين دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ثم حُمِل عليه السلام حتّي دفن في مقابر قريش» «3».

ونظير ذلك ورد في الإمام المهدي (عج) أنّه يقوم بدوره في تدبير الأُمّة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 467

والبشرية كما كان يقوم يوسف عليه السلام بذلك من حيث لا يعرفونه، ممّا يدلّل علي وجود التدبير الخفي عند الأئمّة عليهم السلام، وأنّ هذا التدبير مصيري في بقاء نظام الملّة والدين والأُمّة، فقد روي النعماني بسند قريب من الاعتبار عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد اللَّه الصادق عليه السلام يقول: «إنّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف 7. فقلت: إنّك لتخبرنا بغيبة أو حيرة؟ فقال: ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك أنّ أُخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباط أولاد أنبياء، دخلوا عليه فكلّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه، وكانوا أخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتّي عرّفهم نفسه وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذٍ.

فما تنكر هذه الأُمّة المتحيّرة أن يكون اللَّه جلّ وعزّ يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجّته عنهم؟ لقد كان يوسف إليه ملك مصر وكان بينه وبين أبيه مسير ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يعلّمه بمكانه لقدر علي ذلك، واللَّه لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلي مصر، فما تنكر هذه الأُمّة

أن يكون اللَّه يفعل بحجّته ما فعل يوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحب هذا الأمر يتردّد بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ فرشهم ولا يعرفونه حتّي يأذن اللَّه له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف حين قال له أخوته: إنّك لآت يوسف؟ قال: أنا يوسف» «1».

ومنها: ما روي في قصّة شقيق البلخي المعروفة مع الإمام موسي بن جعفر عليه السلام، حيث شاهد منه العجائب فلمّا رأي منه ذلك قال: «إنّ هذا الفتي لمن الأبدال، لقد تكلّم علي سرّي مرّتين» «2».

وهذا يدلّل علي أنّ مقولة الأبدال والأوتاد حقيقة مسلّمة في أذهان المسلمين،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 468

مصدرها الأحاديث النبويّة، وقد أطلق عنوان الأبدال والأوتاد في الروايات علي الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولكن الإطلاق بمعني آخر، بمعني أنّهم عليهم السلام بدل الأنبياء إذ رفع الأنبياء وختمهم محمّد صلي الله عليه و آله، كما جاء في الحديث عن الرضا عليه السلام، روي في الاحتجاج عن خالد بن الهيثم الفارسي، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إنّ الناس يزعمون أنّ في الأرض أبدال، فمن هم هؤلاء الأبدال؟ قال: صدقوا، الأبدال هم الأوصياء جعلهم اللَّه في الأرض بدل الأنبياء، إذ رفع الأنبياء وختمهم محمّد صلي الله عليه و آله» «1».

وعلّق عليها المجلسي رحمه اللَّه بأنّه يظهر من دعاء أُمّ داود في النصف من رجب مغايرة الأبدال للأئمّة عليهم السلام، وقال: ليس بصريح فيها فيمكن حمله علي التأكيد، ويحتمل أن يكون المراد به في الدعاء خواصّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام، والظاهر من الخبر نفي ما تفتريه الصوفية من العامّة كما لا يخفي علي المتتبّع العارف بمقاصدهم عليهم السلام «2».

ويشير قدس سره إلي اقتباس الصوفية هذا المعني ممّا ورد في أئمّة

أهل البيت عليهم السلام وزعمهم هذه المقامات لأنفسهم، كيف لا وهم متأخّرين عن أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم بقرون.

ومنها: قال الشيخ الكفعمي رحمه اللَّه في هامش جنّته عند ذكر دعاء أُمّ داود:

قيل إنّ الأرض لا يخلو من القطب وأربعة أوتاد وأربعين أبدالًا وسبعين نجيباً وثلاثمائة وستّين صالحاً. فالقطب هو المهديّ عليه السلام، ولا يكون الأوتاد أقلّ من أربعة؛ لأنّ الدنيا كالخيمة والمهدي كالعمود وتلك الأربعة أطنابها، وقد يكون الأوتاد أكثر من أربعة والأبدال أكثر من أربعين والنجباء أكثر من سبعين والصلحاء أكثر من ثلاثمائة وستّين، والظاهر أنّ الخضر والياس من الأوتاد؛ فهما ملاصقان

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 469

لدائرة القطب.

وأمّا صفة الأوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربّهم طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا إلّاالبلوغ، ولا تصدر منهم هفوات الشرّ، ولا يشترط فيهم العصمة من السهو والنسيان بل في فعل القبيح، ويشترط ذلك في القطب، وأمّا الأبدال فدون هؤلاء من المراقبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكّر، ولا يتعمّدون ذنباً.

وأمّا النجباء فهم دون الأبدال، وأمّا الصلحاء فهم المتّقون الموفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال اللَّه تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» «1»

، جعلنا اللَّه من القسم الأخير؛ لأنّا لسنا من الأقسام الأُول، لكن ندين اللَّه بحبّهم وولايتهم، ومن أحبّ قوماً حشر معهم.

وقيل: إذا نقص أحد من الأوتاد الأربعة وضع بدله من الأربعين، وإذا نقص أحد من الأربعين وضع بدله من السبعين، وإذا نقص أحد من السبعين وضع بدله من الثلاثمائة وستّين، وإذا نقص أحد من الثلاثمائة وستّين وضع بدله من سائر الناس «2».

ومنها: ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب بسند عن علي بن أبي حمزة، قال:

كان

يتقدّم الرشيد إلي خدمه إذا خرج موسي بن جعفر من عنده أن يقتلوه، فكانوا يهمّون به فيتداخلهم من الهيبة والزمّع «3». فلمّا طال ذلك أمر بتمثال من خشب وجعل له وجهاً مثل وجه موسي بن جعفر، وكانوا إذا سكروا أمرهم أن يذبحوها بالسكاكين، وكانوا يفعلون ذلك أبداً، فلمّا كان في الأيام جمعهم في الموضع وهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 470

سكاري وأخرج سيدي إليهم، فلمّا بصروا به همّوا به علي رسم الصورة، فلمّا علم منهم ما يريدون كلّمهم بالخزرية والتركية، فرموا من أيديهم السكاكين ووثبوا إلي قدميه فقبّلوهما وتضرّعوا إليه وتبعوه إلي أن شيّعوه إلي المنزل الذي كان ينزل فيه، فسألهم الترجمان عن حالهم، فقالوا: إنّ هذا الرجل يصير إلينا في كلّ عام فيقضي أحكامنا ويرضي بعضنا من بعض ونستسقي به إذا قحط بلدنا وإذا نزلت بنا نازلة فزعنا إليه، فعاهدهم أنّه لا يأمرهم بذلك فرجعوا «1».

ومنها: ما رواه العامّة بطرق مستفيضة أو متواترة، وهو الحديث النبويّ قوله صلي الله عليه و آله: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش وفي ألفاظ الحديث الأُخري- لا يزال هذا الأمر عزيزاً، يُنصَرون علي من ناواه … وفي الأحاديث: لا يزال أمر أُمّتي قائماً حتّي يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش … وفي البعض الآخر: لا يزال هذه الأُمّة مستقيماً أمرها ظاهرة علي عدوّها حتّي يمضي منهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش … وفي بعضها: لا يزال أمر الناس ماضياً. وبعضها: لا يضرّهم عداوة من عاداهم» «2».

والملاحظ في هذا الحديث النبويّ المتواتر أنّه مضافاً إلي تحديد خلافته صلي الله عليه و آله بالاثني عشر وأنّهم كلّهم من قريش بل في بعضها من

بني هاشم، ولا ينطبق إلّا علي العترة المطهّرة، فإنّ في دلالتها مقطع آخر هامّ جدّاً وهو آثار خلافة هؤلاء الاثني العشر، فقد ذكر في الحديث بطرقه المختلفة والظاهر تكرّره من النبيّ صلي الله عليه و آله في مواضع شتّي بتعدّد الرواة والمشاهد:

الأوّل: إنّ دين الإسلام والذي هو ميراث جميع الأنبياء والمرسلين لاسيما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 471

سيدهم خاتم النبيّين صلي الله عليه و آله لا يتمّ حفظه عن الاندراس والزوال والصيانة عن التحريف إلّابهؤلاء الاثني عشر ومن الواضح أنّ هذا الحفظ لا يتمّ إلّابأسباب علمية وعملية، أمّا العلمية فلكون علمهم لدنيا كما مرّ- لا ينزف، يحيطون باللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، وأمّا الأسباب العملية فلا ريب أنّه بتوسّط الأسباب والمسببات سواء من عالم الملك والملكوت وهو يستبطن التدبير الخفي.

الثاني: إنّ عزّة الأُمّة الإسلامية بتوسّط خلافة الاثني عشر، أي قيادتهم وإمامتهم لنظام الأُمّة، ومن الواضح أنّ ذلك لم يكن إلّابالإدارة الخفية بتوسّط منظومات بشرية متستّرة، وإن كان حفظ العزّة لهذه الأُمّة أمر نسبي لا يصل إلي كماله إلّابظهور المهدي وقيام دوله الرجعة للأئمّة عليهم السلام.

الثالث: حفظ أمر نظام عموم الناس والبشرية بهم عليهم السلام وهو أيضاً لا يتمّ إلّا بالتدبير والإدارة الخفية بتوسّط مجموعات بشرية مخترقة للأنظمة المعلنة الظاهرية، ومفاد ألفاظ الحديث يقارب ما استظهرناه من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «1»

كما مرّ، ولفظ الحديث «أمر الناس»، وليس (أمر الأُمّة) ممّا يقتضي التعميم ويعضد إرادة العموم ما تكرّر في الأحاديث أن لولا الاثني عشر لكان الهرج والمرج، وهو عامّ في جميع البشرية؛ إذ هو اصطلاح في الحديث مِن قبيل قيام الساعة لجميع أهل الأرض.

والحاصل: إنّ هذا الحديث النبويّ المتواتر دالّ بالتدبّر والتأمّل علي آثار

وجود الخلفاء الاثني عشر، وهي لا تتحقّق إلّابتصرّفهم عليه السلام من مقام صلاحية خلافتهم في الأرض، وتدبيرهم بما أوتوا من أسباب لدنية وعلوماً من لدنه تعالي. روي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 472

الشيخ الطوسي بسنده إلي جابر الجعفي، قال: قال أبوجعفر عليه السلام: «يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدّة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء اللَّه أن يقيم» «1»

، ورواه في الاختصاص، إلّا أنّ فيه و (عصائب العراق) «2».

وروي الشيخ المفيد بسنده إلي محمّد بن سويد إلي جعفر بن محمّد عليه السلام، قال له: «كيف الحديث الذي حدّثتني عن أبي الطفيل- رحمه اللَّه- في الأبدال؟ فقال فطر «3»:

سمعت أبا الطفيل يقول: سمعت عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام يقول: الأبدال من أهل الشام والنجباء من أهل الكوفة يجمعهم اللَّه لشرّ يوم لعدوّنا» «4».

في النهاية لابن الأثير في مادّة (بدل).. في حديث عليّ رضي الله عنه: «الأبدال بالشام هم الأولياء والعباد، الواحد بدل كحمل وأحمال، وبدل كجمل، سُمّوا بذلك لأنّهم كلمّا مات واحد أُبدِل بآخر» «5».

وروي ابن الفتّال في روضة الواعظين عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالي اختار من كلّ شي ء أربعة … واختار من أُمّة محمّد أربعة أصناف: العلماء والزهّاد والأبدال والغزاة» «6».

وقال البياضي في الصراط المستقيم: (غاية طعن المنكرين لولادته متعلّقة بنفي مشاهدته. قلنا قد أسلفنا مشاهدة قوم من أوليائه، علي أنّ نفي رؤيته لا يدلّ علي نفي وجوده، ولا يقدح فيه قول المنحرف عنه بجحوده، إذ ليس طرق العلم محصورة في المشاهدة، فإذا دلّت البراهين علي إمامته ووجوده لم تكن غيبته عن الأبصار مانعة عن

تولّده، وأكثر المواليد إنّما تثبت بالشياع وهي حاصلة هنا من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 473

الشيعة، وكيف ينكر وجوده لعدم مشاهدته؟ والأبدال موجودون ولا يشاهدون.

قال [ابن] ميثم في شرحه للنهج: قد نقل أنّهم سبعون رجلًا، منهم أربعون بالشام وثلاثون في سائر البلاد. وفي الحديث عن عليّ عليه السلام: الأبدال بالشام والنجباء بمصر والعصائب بالعراق يجتمعون فيكون بينهم حرب..) «1».

ومنها: ما روي في التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام، عن أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام في حديث عن فتح مكّة «2» «.. فلما حُتم قضاء اللَّه بفتح مكّة واستوسقت له- [أي للنبيّ]- أمّر عليهم عتاب بن أسيد، فلمّا اتّصل بهم خبره قالوا: إنّ محمّداً لا يزال يستخف بنا حتّي ولّي علينا غلاماً حدث السنّ بن ثماني عشرة سنة، ونحن مشايخ ذوي الأسنان وجيران حرم اللَّه الآمن وخير بقعة علي وجه الأرض.

وكتب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لعتاب بن أسيد عهداً علي مكّة، وكتب في أوّله: من محمّد رسول اللَّه إلي جيران بيت اللَّه الحرام وسكّان حرم اللَّه، أمّا بعد، فمن كان منكم باللَّه مؤمن وبمحمّد رسوله في أقواله مصدّقاً وفي أفعاله مصوّباً ولعليّ أخي محمّد رسوله نبيه، صفيّه ووصيّه وخير خلق اللَّه بعده موالياً، فهو منّا وإلينا. ومن كان لذلك أو لشي ء منه مخالفاً فسحقاً وبعداً لأصحاب السعير، لا يقبل اللَّه شيئاً من أعماله وإن عظم وكبر، يصليه نار جهنّم خالداً مخلّداً أبداً.

وقد قلّد محمّد رسول عتّاب بن أسيد أحكامكم ومصالحكم، وقد فوّض إليه تنبيه غافلكم وتعليم جاهلكم وتقويم أود مضطربكم وتأديب من زال عن أدب اللَّه منكم؛ لما علم من فضله عليكم من موالات محمّد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومن

رجحانه في التعصّب لعليّ وليّ اللَّه، فهو لنا خادم وفي اللَّه أخ ولأوليائنا موالياً ولأعدائنا معادٍ، وهو لكم سماء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 474

ظليلة وأرض زكية وشمس مضيئة، قد فضّله اللَّه علي كافّتكم بفضل موالاته ومحبّته لمحمّد وعليّ والطيبين من آلهما، وحكّمه عليكم يعمل بما يريد اللَّه فلم يخلّيه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمّد وعليّ شرفه وحظّه، لا يؤامر رسول اللَّه ولا يطالعه بل هو السديد الأمين، فليطمع المطيع منكم بحسن معاملته شريف الجزاء وعظيم الحياء، وليتوقّ المخالف له شديد العذاب وغضب الملك العزيز الغلّاب، ولا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه؛ فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعادات أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يبعد اللَّه غيره.

قال: فلمّا وصل إليهم عتاب وقرأ عهده ووقف فيهم موقفاً ظاهراً نادي في جماعتهم حتّي حضروه، وقال لهم: معاشر أهل مكّة، إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله رماني بكم شهاباً محرقاً لمنافقكم، ورحمة وبركة علي مؤمنكم، وإنّي أعلم الناس بكم وبمنافقكم.. ففعل واللَّه كما قال وأعدل وأنصف وأنفذ الأحكام مهتدياً بهدي اللَّه غير محتاج إلي مؤامرة ولا مراجعة» «1».

وفي الرواية مواضع للإستشهاد:

قوله صلي الله عليه و آله: «يعمل بما يريد اللَّه فلم يخلّيه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمّد صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام شرفه وحظّه، لا يؤامر رسول اللَّه ولا يطالعه بل هو السديد الأمين»، فإنّه دالّ علي أنّ تصرّفات عتاب بن أسيد لم تكن عن طريق توصيات ووصايا قولية وأوامر لفظية من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بل كانت عبر

تسديد الإلهام من النبيّ صلي الله عليه و آله، كما هو الحال في الأبدال والأوتاد، وكما ورد نظير ذلك في النوّاب الأربعة في الغيبة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 475

الصغري، حيث إنّهم كانوا سفراء لا رواة، وكما ورد نظير ذلك في أصحاب الإمام المهدي الثلاثمائة والثلاثة عشر في كيفية تلقّيهم برامج وأنشطة الحكم الذي يزاولونه.

ويعضد هذا المفاد قوله في آخر الرواية: «ففعل واللَّه كما قال وأعدل وأنصف وأنفذ الأحكام مهتدياً بهدي اللَّه غير محتاج إلي مؤامرة ولا مراجعة»، وهذا تكرار في التصريح أنّ إنفاذه للأحكام لم يكن بأوامر لفظية ولا مراجعة قولية سماعية، وهذا من خواصّ منظومة الحكومة الخفية، حكومة الأبدال والأوتاد والنقباء والأركان، وقد بيّن صلي الله عليه و آله أنّ وصول عتاب لهذا المقام هو بسبب الدرجة الخاصّة التي وصل إليها من موالاة ومحبّة النبيّ ووصيّه وآلهما عليهم السلام، ومعادات أعدائهم، وأنّه فاق في ذلك كلّ أهل مكّة آنذاك، ومن ثمّ حظي بهذا المقام الخاصّ كما ورد نظيره في النواب الأربعة. وعتاب مع صغر سنّه خاطب أهل مكّة كما حكي عليه السلام قوله تقريراً له: «وأنّي أعلم الناس بكم وبمنافقكم».

ونموذج عتاب بن أسيد يدلّل علي أنّ الحكومة الخفية السرّية تظلّ قائمة موجودة في ضمن الحكومة المعلنة، بل إنّ عتاب بقي أميراً علي مكّة في عهد خلافة أبي بكر، ممّا يشير إلي اختراق الحكومة الخفية للأنظمة الأُخري.

ومنها: ما رواه الصدوق في الأمالي بسنده عن الأعمش، عن الصادق عليه السلام، قال:

«لم تخل الأرض منذ خلق اللَّه آدم من حجّة للَّه فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلي أن تقوم الساعة من حجّة للَّه فيها، ولولا ذلك لم يُعبد اللَّه.

قال سليمان: فقلت للصادق عليه السلام: فكيف ينتفع الناس

بالحجّة الغائب المستور؟ قال:

كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 476

ولا يخفي دلالة الرواية علي أنّ الغيبة بمعني التستّر والخفاء والسرّية، لا الزوال والذهاب والابتعاد والإقصاء، كما أنّ التشبيه بالشمس إذا سترها السحاب صريح في ذلك في أنّه يقوم بكلّ أدواره إلّاأنّه بنحو متستّر خفي.

ونظير هذه الرواية ما رواه الصدوق في إكمال الدين، والطبرسي في الاحتجاج عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب أنّه ورد من الناحية المقدّسة علي يد محمّد بن عثمان: «.. وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب..» «1».

ونظير ما رواه الصدوق في إكمال الدين أيضاً بإسناده عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، عن النبيّ صلي الله عليه و آله في حديث عن الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وأنّ آخرهم المهدي ويغيب عن شيعته وأولياءه: «.. قال جابر يا رسول اللَّه فهل ينتفع الشيعة به في غيبته؟ فقال صلي الله عليه و آله: اي والذي بعثني بالنبوّة أنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب» «2».

ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد الذي رواه الطبرسي في الاحتجاج: «.. فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ (بالزلل) (بالإذلال) الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلي ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم، كأنّهم لا يعلمون.

إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا اللَّه جلّ جلاله وظاهرونا علي انتياشكم من فتنة قد أنافت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 477

عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويُحمي عنها من أدرك أمله، وهي إمارة لأزوف حركتنا

ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، واللَّه متمّ نوره ولو كره المشركون، اعتصموا بالتقية..» «1»

ثمّ ذكر الحجّة (عج) سلسلة من الأحداث المستقبلية وكيفية التدبير فيها.

ومفاد التوقيع الشريف ناصّ علي تصدّيه (عج) لتدبير الأُمور بنحو خفي، وتمام مراقبته للأحداث صغيرها وكبيرها والبرامج المتّخذة فيها، وأنّه لولا هذه الإدارة والتدبير الخفي لاستأصل الأعداء كيان المؤمنين.

وفي التوقيع الثاني ابتدأ نسخته: «من عبد اللَّه المرابط في سبيله إلي مُلهَم الحقّ ودليله»، وقد تضمّن قوله (عج): «.. ويأتيك نبأ منّا بما يتجدّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا..»، ثمّ ذكر (عج) جملة من الحوادث وكيفية التدبير فيها، وقال: «وآية حركتنا من هذه اللوثة حادث بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم لهم والعدوان؛ لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقّوا بالكفاية منه وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع اللَّه سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.. ولو أنّ أشياعنا وفّقهم اللَّه لطاعته علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا» «2».

ومفاد التوقيع الشريف نظير سابقه في رصده (عج) للأحداث وتدبيرها قبل وقوعها، ولا سيما صدر التوقيع حيث عبّر (عج) عن نفسه الشريفة بالمرابط في سبيل اللَّه الدالّ علي قيامه (عج) الشريف في رأس الهرم للتصدّي لتدبير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 478

الأحداث، إذ الرباط هو الجهاد في سبيل اللَّه لحفظ الثغور عن أن ينفذ منها الأعداء.

وفي حديث رواه النعماني في غيبته بسنده عن أبي جعفر محمّد بن علي، عن أبيه عليّ بن الحسين عليهم السلام في تفسير هذه الآية:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا» «1»

، قال عليه السلام: «سيكون ذلك ذرّية من نسلنا المرابط..» الحديث «2».

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب، قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: إنّ عند كلّ بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكّلًا به يذبّ عنه، ينطق بإلهام من اللَّه ويعلن الحقّ وينوّره، ويردّ كيد الكائدين، يُعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا علي اللَّه» «3».

ومنها: ما ذكره الوحيد البهبهاني في تعليقته علي منهج المقال في ترجمة علي بن المسيب عن بعض الكتب المعتمدة، أنّه أُخذ من المدينة مع الكاظم عليه السلام وحبس معه في بغداد وبعد ما طال حبسه واشتدّ شوقه إلي عياله قال عليه السلام له:

«اغتسل فاغتسل، فقال: غمّض فغمّض، فقال: افتح ففتح فرآه عند قبر الحسين عليه السلام فصلّيا عنده وزارا، ثمّ قال: غمّض وقال افتح فرآه معه عند قبر الرسول صلي الله عليه و آله، فقال: هذا بيتك فاذهب إلي عيالك وجدّد العهد وارجع إليّ، ففعل فقال: غمّض وافتح، قال فرآه معه فوق جبل قاف وكان هناك من أولياء اللَّه أربعون رجلًا، فصلّي وصلّوا مقتدين به، ثمّ قال غمّض وقال افتح، ففتح فرآه معه في السجن» «4»

. وهذه الرواية تشير وتعزّز أنّ الحكومة الخفية كانت لدي جميع المعصومين يديرونها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 479

وهناك إشكال أثارته العديد من مدارس المعرفة الحديثة ضدّ أبناء الإمامية حول تعريف الإمامة الإلهية، وهو يوجّه إلي وجود مثل هذه المنظومات الغيبية التي تقوم بالهداية الإيصالية في مراتبها المختلفة، وحاصله أنّ هذا البيان لحقيقة الإمامة ولهذه المنظومة يقترب من عقائد الصوفية والعرفاء، حيث إنّهم يعتقدون بوجود سلسلة

من المراتب المترتّبة علي هيئة هرم له مركز في الأعلي هو القطب، وقد يقال له الغوث أو الإمام، وإنّ عالم الأرواح والنفوس متشابك ومترابط وجوداً علي هذه الهيئة الهرمية.

وبعبارة أُخري: يهدف المستشكل إلي القول بأنّ هذا الاعتقاد بحقيقة الإمامة هو من تأثير الصوفية.

والجواب: إنّ الموجود عن الصوفية لا يتجاوز بذوره عن القرن الثالث، بل إنّ بلورته كنظرية جاءت في أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن، والروايات الواردة في ما نذكره بل الآيات في هذا المجال أسبق بكثير من هذا التأريخ، وقد أشرنا إلي أنّ حقيقة الإمامة إنّما نهتدي إليها من الآيات والروايات، فلا يكون من التأثير الصوفي علي الفكر الشيعي، بل هو من تأثير الحكمة الشيعية علي الفكر الصوفي كما تقدّم.

هذا وعندما نتأمّل في كتاب الإحياء للغزالي الذي تأثّر به كثيراً ابن عربي، نلاحظ ذلك أنّه بالروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام من مصادر الحديثية للشيعة، وأنّ في جملة المباحث يحاول أن يستقي ويبني نظرياته علي ضوء ما يستظهره من تلك الروايات المفصلية في بحوثهم، هي روايات أهل البيت، وأنّهم علي أساس هذا خالفوا الجمهور في الكثير من متبنياتهم الكلامية..

بالإضافة إلي كلّ ما تقدّم: وجود الروايات المتواترة وبألسنة متعدّدة وطوائف متنوّعة- كما ذكر العلّامة في مقالات تأسيسية- تثبت الهداية الإيصالية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 480

للإمام عليه السلام، من قبيل ما ورد في ذيل آية: «فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «1».

ومن ثمّ نفهم الحسّاسية البالغة عند فقهاء السنّة ومحدّثيهم من صوفيتهم حيث تجرّ أُطروحاتهم إلي الفكر الشيعي وتقترب منه، وتجعل من مبدأ الإمامة الشيعي ضرورة، فحاولوا الطعن عليهم بأنّهم متأثّرون بالاتّجاه الباطني وهو الشيعة، مستهدفين بذلك تجريد الأُطروحة من الدليل والشرعية.

فقد جاءت الباطنية في كلماتهم في

سياق الذمّ وأنّها منقصة، ومن ثمّ نسبوها إلي الأئمّة، حتّي قال بعضهم: إنّ نسبة الباطنية إلي عليّ عليه السلام محتملة، وأمّا نسبتها إلي جعفر بن محمّد عليه السلام فلا ريب فيه.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ ما ذُكر إقرار بأصالة الفكرة لدي الإمامية وإنّ فكرة الخفاء والباطنية هي أُطروحة الشيعة لا من مستورداتهم، سوي أنّ هذه الفكرة قبلتها الشيعة بالشكل الذي مرّ، وهو حفظ التوازن بين البطون والظهور وعدم تغليب أحدهما علي حساب الآخر.

وعندما نتأمّل كلمات الغزالي وابن عربي نلحظ أنّ المقاطع المفصلية في بحوثهما مأخوذة من روايات أهل البيت عليهم السلام، وقد يستعملان نفس العبائر في كثير من الأحيان، ولذا خالفا الجمهور في التنظير لمتبنّياتهما الكلامية مع وجود تحفّظات علي كثير ممّا ذهبا إليه.

كما ذكر العلّامة في مقالات تأسيسية في إثبات الهداية الإيصالية للإمام في كثير من الآيات، من قبيل: «فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

من أنّ الإمام يشهد أعمال أُمّته وهو واضح في الهداية الإيصالية، بل تدلّ علي وجود المنظومة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 481

الهرمية، ومن قبيل «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «1»

الدالّ علي أنّ دور الهادي هو الهداية الإيصالية، ومن قبيل الروايات الدالّة علي أنّ الإمام يحضر علي الصراط في الحشر والنشر.

ويوافق هذا اضطراب الأُطروحة الصوفية في الإمامة والولاية، مع ضمور ما انتهوا إليه بالقياس إلي ما ورد في الروايات ممّا يشفّ عن أنّهم ليسوا أصحاب النظرية.

ولابدّ من التنبّه إلي أنّ واحدة من ألوان الاختراق الفكري هي مسخ المفاهيم عن حقيقتها واستبدالها بمحتوي آخر، ويأخذ هذا اللون من الاختراق طابع الثبات في الذهنية العامّة في بعض حالاته، فتقع الأُمّة في شرك التحريف من دون أن تشعر؛ وذلك لأنّ عملية المسخ لم تأت معلنة

وإنّما متلبّسة بصورة الحقّ، حيث استغلّ القائمون بهذه المهمّة فكر العلاقات بين المعاني والمعاني وبين ألفاظها مع المعاني كذلك أو وحدها، بعد التفاتهم إلي أنّ اللفظ يكتسب حسناً من معناه الحسن نتيجة العلقة الوطيدة بين اللفظ والمعني، والكناية والاستعارة والمجاز العقلي مرتبط كلّه بهذا المجال الذي ذكرناه، وهو معبّر عن بعد إيجابي في اللغة.

ولكن البعض قد يستفيد من لفظ محبّب إلي القلوب أو ذي قداسة وحرمة لمحبوبيّة أو حرمة محتواه، بتفريغه من محتواه واستبدال المعاني بمعاني أُخر، فضلًا عن تقنيع المعاني بألفاظ أُخري ووضع محتوي جديد له لا يمتّ إلي الدين بصلة، كاستعمال العدالة في الظلم الخاصّ، ومن ثمّ قيل: من أجل تحريف الدين يكفي مسخ المعاني دون التلاعب بالألفاظ «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 482

كما يمكن أن يكون ذلك واحدة من حِكَم ومبرّرات حرمة التعرّب بعد الهجرة، وهو يشمل استيطان بلاد الكفر وما يسمّي بالمهجر مطلقاً، وهو الوقوع في عملية مسخ في محتوي الدين. وعلي هذا الأساس كانت أوّل مهمّة لابدّ أن ينجزها الباحث هي التأكّد من ضبط معني اللفظ قبل أن يدخل في التفاصيل.

وواحدة من الألفاظ التي تعرّضت لهذا النوع من المسخ للمعني كلمة الباطن و (الغيب)، حيث أصبحت تعبّر عن اتّجاه منحرف فاقد للشرعية، فوصمت اللفظتين بهذا الطابع السلبي، ومن هنا فإنّ فكرة البطن في الفكر الشيعي وإن كانت حقيقة لكون أئمّة أهل البيت هم المطّلعين علي اللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، ولكن بالمعني الذي مرّ، تحديده مع العلاقة التي ألفتنا إليها بين البطن والظهر.

الفائدة الرابعة: … ص: 482

إنّ القضايا التي تعرّض لها موسي مع الخضر قد وقعت بنفسها له من قبل، فوضع أُمّه له في اليم يشبه خرق السفينة من جهة تعرّضها للغرق ولم

تغرق..

وقتله للقبطي وهو لم يكن مقصوداً يشبه قتل الخضر للغلام، واستسقائه لبنات شعيب وعدم أخذه الأجرة مع جوعه وضناه الشديد علي ذلك كإصلاح الحائط

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 483

من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأُمور الثلاثة التي حصلت للخضر كانت قد حصلت له مثيلاتها ممّا يكشف عن موازاة بين ما وقع لكلّ منهما.

وهذا مصداق لما قيل في بحوث المعرفة من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه قد وقعت له حادثة شبيهة لها من قبل ولم يستغرب منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيامه وفي البرزخ وعرصات يوم القيامة كلّها يندرج في قوله تعالي: «هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا» «1».

وقد ظهرت تفسيرات متعددة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعني والذوق: أن يُري اللَّه تعالي عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السابق علي أساس وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين: لأجل إعلام موسي أنّ علمه محدود وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبة عنه. وهذا التفسير مقبول علي شرط أن لا يتنافي مع العصمة.

ولكن كلا التفسيرين ناقصان، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبساً من القرآن متمّماً لهما وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالم القضاء والقدر والإرادات التكوينية، أي بين السنن الكونية الإلهية، وبين الشريعة بحسب الظاهر، وأنّهما جميعاً تسعيان لغاية واحدة ولا تتخلّف في الجميع.

ومن ثمّ يفهم قوله تعالي: «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» «2»

وقوله تعالي: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «3»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 484

ورتّب علي ذلك ما في قوله تعالي: «لَايَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّي ءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «1»

. إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشريعة

الظاهرة بمكرهم ودسائسهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملهم هذا وإن كان رأس فتنة الشرّ ومكرهم تكاد تزول الجبال منه كما هو الحال في شر إبليس، إلّاأنّه في مجموع نظام الخلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة من دون أن يشعروا، إذ الإرادات التكوينية تأخذ مجالها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشريعة بحسب الدرجتين، وهذا لا يعني نفي شرّية عملهم ولا نفي شرّية إبليس ولا مشروعيته، إلّاأنّ الباري تعالي يوظّفه في منظومة الخير كما هو الحال في العقرب والأفعي والذئب.

وهذا العالم هو عالم القضاء القدر والإرادات التكوينية قد يعبّر عنه بعالم الملائكة كما في لغة القرآن، وقد يعبّر عنه بعالم العقول والنفوس الكلّية كما في لغة الاصطلاح الفلسفي، حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنفوس، مع مغايرة الثالث للثاني بأنّه أدني درجة، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة، أخذاً له من الشرع وهو عالم الولاية.

وهذا العالم ذو درجات متسلسلة تكويناً وقد عبّر عنه الفلاسفة بالنظام العليّ والعلمي ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مبرماً.

وقد لوحظ علي الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلّاصورة نظام جامد يفتقد الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل الناس معهم كما تفاعل مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعني، حيث قدّموا صورة مفعمة بالحياة لتلك العوالم، وأعطوا صورة عنها بأنّها موجودات حية مختارة، مع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 485

حفظ الفارق أيضاً بين تصوير العرفان والدين، في حين لم يتمكّن الحكماء إلّا بتقديم كلّيات تؤمن حالة من المعرفة من بعيد لا أكثر.

والمتكلّم اعتمد علي الحسن والقبح وفيه حيوية

العقل العملي، ومن ثمّ كان واحداً من امتيازاته.

وبعبارة أُخري: إنّ الفلاسفة وإن قبلوا أنّ الملائكة موجودات حيّة مختارة، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسباب تكوينية لا تتخلّف، مع تركيزهم علي هذه الزاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: «لَايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ» «1»

و «هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» «2»

والأمر بالسجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحياً، وإنّما بالأسباب التكوينية التي لا تتخلّف، وهي لفتة صحيحة وغير صحيحة بمعني آخر:

فهي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامر اعتبارية وإنشاءات وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقية، فلا مبرّر لتأويلها بالسبب الموهم لانعدام الاختيار وإن كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كونية في الإرادات الإلهية التكوينية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ حكم اللَّه في أهل السماء والأرض واحد» «3»

، فهم مختارون حقيقة، وإمكان المخالفة موجودة وباب التكامل مفتوح، فقد ورد أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن صريح في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا علي داعي المعصية- كما جاء في الحديث الشهير- وهي الشهوة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 486

والغرائز الحيوانية، وإنّما تتحقّق المخالفة بترك الأولي الناشئ من محدودية العلم بسبب محدودية وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّلي.

وتصوير إمكان المخالفة في عالم النفوس الكليّة أوضح، حيث إنّها تحتاج إلي تأمّل وروية في أخذ قرار العلم، بالإضافة إلي محدودية الوجود واختلافها في درجة العلم مع الملائكة التي من سنخ العقول.

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضهم (أتجعل فيها)، وقضية فطرس وعشرات الروايات التي يظهر منها تخلّف الملائكة عن الصواب، لكن بنحو ترك الأولي لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوي وجوداً وصفة ومنها الاختيار

والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً، ومع تصوير القدرة البشرية لابدّ أن تكون هذه القدرة موجودة هناك وبنحوٍ أرقي وأشدّ.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقّيه العقلي والنفسي، فلا داعي للتأمّل، بل بهذا العرض يتبين الوساطة في الفيض، وفي قوس النزول أيضاً علّة اختيارية، ما به الوجود لا ما منه الوجود؛ فإنّه خاصّ به تعالي. وقد قرّر ذلك في مباحث الفلسفة أيضاً، إلّاأنّ نمط البحث العقلي النظري لا يترقّي في تصويره إلي بيان أنّ نظام الأسباب في حين كونه نظام وجوب؛ فهو بأفعال اختيارية تنفيذاً للأمر الإلهي.

ويتّضح أنّ المطلب الذي أوقع البحث العقلي في التقريب الناقص للموضوع وإلي حدّ قد ينعكس منه الجبر وأنّ القضية ذات نظام ذاتي لا يمكن الخروج عنه، نظير ما قالته اليهود من أنّ يد اللَّه مغلولة، هو اعتمادهم علي لغة العقل وحده منفصلًا عن النقل.

والمؤسف أنّ البعض لم يرض بالنقلة الإيجابية التي خطاها صدر المتألّهين في حكمته حيث طعّمها بالقرآن والسنّة، آخذاً عليه أنّه خروج عن منهج البحث

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 487

الفلسفي الذي يتطلّب التمحّض في العقليات.

ولا نقصد بذلك التفكيك في العمل بالنقل بمعزل عن العقل، وأنّما الغرض هو التنبيه علي عدم الجمود علي القواعد الفلسفية والعرفانية والكلامية مع ضرورة الخوض فيها، وأنّها بدونها تكون عملية التفقّه في العقائد سطحية، لكن اللازم الترقّي بالتوغّل أكثر في روايات أهل البيت لاكتشاف المعارف التي قصرت المناهج عن الوصول إليها، مع أنّها مدلّلة بنكات بينة في الروايات، لكن لم يحصل التنبّه إليها في العلوم العقلية، بل جملة كثيرة مترامية من المسائل لم تعنون في البحوث العقلية.

وبعد كلّ هذا، اتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختار ومتكامل ومعصوم، ووقوع المخالفة

لإرادة المولي بنحو ترك الأولي بسبب الجهل الممكن تلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّل الأمر والنهي الحقيقيين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلّافي قضية الشهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيات. وهذا ما يستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان أمراللَّه الملائكة بالسجود لآدم وإباء ابليس: «فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ علي اللَّه بمثل معصيته؟ كلّا، ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إنّ حُكمَه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللَّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِميً حرّمه علي العالمين» «1» فصريح كلامه عليه السلام أنّ الأحكام الإلهية بحسب دائرة الدين واحدة لأهل النشأة الأرضية والنشآت الأُخري، فدين اللَّه واحد في العوامل وليس يخصّص بدار الدنيا، وكلامه عليه السلام يشير إلي قوله تعالي: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 488

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النظام الملائكي قد كلّف بشريعة مطابقة لشريعة السنن الإلهية الكونية والظاهرة، بعد التذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشريعتين الظاهرة والكونية في نظام التكوين، بأنّها شريعة واحدة والوسيلة في التلقّي والتطبيق مختلفة، بيان ذلك:

إنّ الشريعة الظاهرة عبارة عن صفحة نازلة قد دوّن فيها كلّ ما في عالم التكوين في قوس الصعود والنزول ونشأة الدنيا وهي الواقعة بين القوسين، نهاية الأوّل وبداية الثاني، وبهذا التصوير يفهم قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، فإنّه يدلّ بوضوح علي عدم وجود شرعة أجنبية عن شرعة الظاهر.

وبهذا نصل إلي نتيجة وهي: إنّ القضايا التكوينية التي واجهها موسي قبل لقائه بالخضر المشابهة للقضايا التي شاهدها مع الخضر، أيضاً مطابقة لشريعة الظاهر بنفس

البيان، سوي أنّ القضايا التي واجهها موسي أوّلًا حديث ضمن المسار التكويني، والتي واجهها ثانياً مع الخضر حدثت علي أساس الشريعة الكونية.

الفائدة الخامسة: … ص: 488

إنّ الأئمّة عليهم السلام يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلي جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدني والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: «شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا».

وشاهد آخر: إقدامهم علي ما يعلمون، كالإقدام علي القتل، فإنّ تفسيره

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 489

الصحيح هو العلم اللدني، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولي «1».

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة- كما يظهر ذلك من العامّة- بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة..

وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسي النبي الذي ورد في أوّل السورة: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَي آثَارِهِمْ» «2»

، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ صلي الله عليه و آله بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ علي أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلي عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلي الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 490

علي أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة: استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء اللَّه

الذين اختارهم اللَّه حججاً علي عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف «1» ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ صلي الله عليه و آله بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم علي أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء عليها السلام ومريم عليها السلام والخضر عليه السلام مع حفظ الفارق، وقد أشارت الروايات «2» إلي هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدني بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 491

والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم، مع الالتفات إلي تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة اللَّه في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالي لآدم والذي يهدف إلي خضوعهم وتبعيتهم لخليفة اللَّه في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة علي قوس النزول والصعود والفروع. وبعبارة أُخري: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت

والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقام أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له؛ حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل وفرق الباطن عن الظاهر وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا علي الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير للّاحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: «لو علم الناس كيف خلق اللَّه تبارك وتعالي هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً …» «1»

وكذا روايات الذرّ والميثاق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 492

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع؛ فإنّها كما تعني بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تعني بأغراض كلّ فرد بل حتّي الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين … ص: 492

سيتمّ الإلفات إلي المحاور التالية:

1- مرتبة ذي القرنين.

2- القوّة التي مُنحت له.

3- التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

4- ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

«وَيَسْأَلُونَكَ»، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدي الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

«سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا»، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر علي بعض ملامحها.

«إِنَّا مَكَّنَّا» تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدني.

والتمكين لا يطلق علي الملك اليسير وإنّما علي الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي عليه السلام

في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

«وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَبًا».

لا سبب كلّ شي ء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلّاأنّها دخلت علي (كلّ شي ء)، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين؛ لأنّ (كلّ) تفيد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 493

العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

«سَبَبًا» لم يستعمل القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ» «1»

، «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ» «2»

، «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ» «3»

. والسبب في اللغة: كلّ شي ء يقتدر به علي شي ء آخر، سوي أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حبوة إلهية ومنحة وهي القدرة اللدنية، بقرينة أنّه لم يذكر لغيره، وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا- كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين- المعدّ، لا سيما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود؛ فإنّه منحصر به تعالي، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب علي ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوي معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخري ملكوتية فضلًا عن الأسباب الفاعلية، لا سيما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَي إِبْرَاهِيمَ» «4»

، «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ..».

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلي تمكينه- الذي قيد (في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 494

الأرض)- الإيتاء وهو المنسجم

مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير ب «كشط له».

«فَأَتْبَعَ سَبَبًا» من تلك الأسباب.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ» سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير. (مغرب الشمس) إشارة إلي أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلي أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه «كشط له».

«قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ»، خطاب مباشر منه تعالي لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة عليهم السلام عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسي وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدني معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَتْ رَبِّ أَنَّي يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 495

«إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا»، تدلّ علي أنّ الحاكمية- القيادة السياسية والقوّة التنفيذية- أوّلًا وبالذات هي للَّه تعالي، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية اللَّه تعالي.

حيث يظهر من الآية

أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه اللَّه لذي القرنين، ممّا يدلّل علي أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالي، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن اللَّه كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ»، والحديث الحديث، مع دلالتها علي أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

«لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا»، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّي علي مستوي الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف.

والروايات أيضاً تدلّ علي أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر عليه السلام في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم «1»، وهذا مقتضي العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

«كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا» يدلّ علي إحاطة الربّ تعالي بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 496

أوّلًا: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلي الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن كما ذكرنا سابقاً يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز علي المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية

لهؤلاء.

وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية وهي مقام الإمامة وأنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

«لَايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا»، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقي بهم سابقاً.

ثانياً: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ»، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل اللَّه تعالي وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلّا أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ اللَّه عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة علي عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة اللَّه الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة- يد الوالي- لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 497

تصفّق كما في المثل، فنصب الإمام من اللَّه للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقي علي عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقي علي عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة علي أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، علي العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي اللَّه فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

«رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية،

ولكن لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا علي بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص: أوّلًا: إنّ هناك قدرة لدنية، زوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشي العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبني السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلي كلّ هذا في حياة هذا الولي؛ لرفع أسي النبيّ صلي الله عليه و آله وطمأنته بأنّ الأغراض التي علي أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 498

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف … ص: 498

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة للَّه في الأرض وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلي أهداف الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطفين، إلّاأنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

«إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَي الْأَرْضِ»، بيان أنّ عالمنا عالم الإمتحان، فلا إلجاء ولا جبر كما في قوله تعالي: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «1»

، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالي: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» «2».

وقد توسّطت هذه الآية بين آية «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ..» وقصّة الكهف؛ للتنويه علي أنّ الهداية

الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلّاأنّ المسؤولية ما زالت قائمة علي الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن اللَّه التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبيّ صلي الله عليه و آله عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلي نجران للتوفّر علي مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت أهل الكهف وصاحب موسي وذو القرنين. وقد قال علماء نصاري ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلّا فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 499

أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتي هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده علي المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبوطالب عليه السلام حتّي نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها علي أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

«أَمْ حَسِبْتَ»، لا دلالة في السورة علي أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

«الرَّقِيم» في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم علي هذا اللوح ووضعه علي قبورهم بعد موتهم.

«أَمْ حَسِبْتَ» تدلّ علي أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة للَّه تعالي، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت علي أمرها من رواد الباطل وعلي رأسهم الملك آنذاك، إلّاأنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل،

ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين عليه السلام المشال علي رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 500

والروايات تشير إلي هذا المضمون.

«الْفِتْيَة» أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة.

ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.

هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمل والضفادع والدم تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلي أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلّاأنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: «اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه»، أي في القرآن.

ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر علي أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين كمؤمن آل فرعون.

«إِذْ أَوَي»، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من اللَّه تعالي، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

«أَيُّ الْحِزْبَيْنِ»، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ علي التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

«ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ»، النوم نوع من التوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل علي أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوي الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالي: «لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 501

اللَّهِ حَقٌّ

وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا» «1».

«إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ»، هذه الآية تتعرّض لمجمل عقائدهم التوحيدية الرفيعة وحكمتهم العملية، من دون أن توجد دلالة في الآيات علي تعريفهم بواحدة من الديانات المعروفة، ممّا يعني أنّ إيمانهم هذا بدافع من فطرتهم السليمة.

«وَزِدْنَاهُمْ هُدًي»، وهي هداية خاصّة مُنحوا إياها علاوة علي إيمانهم، ممّا يدلّ علي رفعة مكانتهم.

«فَأْوُواْ إِلَي الْكَهْفِ» بداية لإنشاء مجتمع توحيدي منفصل ومستقلّ عن مجتمع الكفّار؛ لوجود التقاطع بين المجتمعين، ممّا يفرض وجود دارين: الإيمان والكفر.

«وَتَرَي الشَّمْسَ..»، النوم وما جري عليهم في أثنائه أُمور غير اختيارية إلّاأنّها ممزوجة باختيارهم، وبها كانوا آية من آيات اللَّه تعالي.

«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ..»، لباب القصّة وحلقة الوصل مع المحور الأصلي في السورة، والهداية من دون قرينة يقصد منها الإيصالية في قبال النذارة، وذيل الآية قرينة علي الإيصالية؛ لظهور الولاية في ذلك، والإرشاد وإن كان إراءة إلّاأنّه ليس إراءة كلّية كما في نذارة النبوّة، بل هداية تفصيلية متولّدة من الإرادة الكلّية النبويّة في التشريع، ومن ثمّ لم يستعمل نعت الإرشاد للنبيّ صلي الله عليه و آله من جهة مقام النبوّة.

ومرّة أُخري نلفت إلي أنّ محور الخلاف مع العامّة هو أنّهم اقتصروا علي ضرورة الإراءة والتنظير من دون الإيصال إلي المطلوب.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 502

«لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا»، عناية إضافية حفظاً لهم عن التلف.

«وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا..»، واحدة من الأدلّة القرآنية علي مشروعية التقية.

«وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ..»، واحدة من الغايات، وهي- علي الظاهر- نصر المؤمنين في الدين وقدرة الباري تعالي علي بعث الأموات.

«وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا»، غاية أُخري: وهي المعاد وهو امتداد الهداية الإيصالية، فإنّه يعني السير إلي اللَّه تعالي واللقاء به،

وهو لا يتمّ إلّابواسطة الهداية الإيصالية والإيصال إلي المطلوب.

ومن ثمّ كان المعاد واحداً من الأدلّة علي الإمامة، فالآية تدلّ علي أنّ الهداية الإيصالية تحقّق وتوفّر بلوغ الغاية في الدنيا والآخرة.

«لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا..»، فيه تقرير لجواز اتّخاذ المساجد علي القبور، وجعله مكاناً إذا كان موجباً للعبرة كأصحاب الكهف، والقرينة علي ذلك هي تذكير القرآن بهذا الاقتراح من بين الاقتراحات المطروحة من القوم حول أهل الكهف الذين فارقوا الحياة.

«وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا..»، مرتبط بما ذكرناه في سبب نزول السورة ووعد النبيّ صلي الله عليه و آله إجابة الأسئلة من دون تعليق ذلك علي المشيئة.

«اللَّهُ أَعْلَمُ..»، لعلّه ظاهر في أنّ سنّة اللَّه أن يُبقي الولاية والهداية الإيصالية محاطة بشي ء من الغموض و الخفاء، فلا تكون معروفة في حينها للجميع، كما لا يتمّ التعريف بكلّ جنباتها، خاصّة النوع الأوّل والثاني المتمثّل في أصحاب الكهف والخضر.

«مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ..»، فهو الذي يتولّي البشر ويهديهم، والولاية مفهوم قد استبطن فيه القدرة، فالإمامة هي نافذية حكم اللَّه من دون إشراك..

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 503

«أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ..» للدلالة علي بالغية إحاطة اللَّه تعالي بمجريات الأُمور ومقدّراتها علي صعيد الأفراد والمجموع البشري.

وبهذا ينتهي الحديث في هذه القصّة، وأهمّ ما جاء فيها:

1- وجود هداية إرائية وإيصالية حتّي فيمن لم يتوفّر علي هداية الرسول الظاهر.

2- وجود قسم من الأولياء وذوي الشأن وراء الوليّ الحجّة، وقد وصل بعضهم إلي مقام ضرب المثل والآيتية والقدرة، كما في أصحاب الكهف، ولعلّ نظيرهم: «جَاءَ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَي» «1».

3- إنّ المأخوذ في ماهية الهداية الإيصالية نوع من القدرة والتصرّف التكويني، ولكن من دون إلجاء، بقرينة مرشداً التي تعني الهداية الإرائية والتبعية.

4- إنّ النصرة والظفر

في الدنيا من سنن اللَّه التكوينية، ومن ثمّ يستتبّ الأمر أخيراً لحزب اللَّه النجباء.

5- وجود ارتباط وثيق بين الإمامة وبين المعاد، وعلي أساسه يمكن فهم فكرة الشفاعة، الحضور عند الاحتضار، شهادة الأعمال، قسيم الجنّة والنار.

6- حكمة اللَّه اقتضت كتمان بعض زوايا الهداية الإيصالية، ومن ثمّ قد توجب نوعاً من الاستغراب والتعجّب عند من لم يطّلع علي الأُمور ويتعامل معها بشكل سطحي، وإلي حدّ قد تصل الحالة إلي تفسير بعض الظواهر بالعبث.

7- «وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا»، يدلّ علي أنّ الذي يحقّق الأغراض هو تعالي، فلا تنحصر القضية حينئذٍ بالهداية الإرائية.

8- مقتضيات الفطرة هي البنية التحتية للأُصول والفروع.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 504

والآيات اللاحقة تحوم حول هذه الأفكار:

أ- غايات اللَّه لا مبدّل لها، فلابدّ أنّ تتحقّق: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ..».

ب- الدعوة للتمسّك بالهداية الإرائية والتي هي الخطوة الأُولي في السير والاهتداء بالهداية الإيصالية: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ..».

ج- أعمال الكفّار هباء وأعمال المؤمن مثمرة وإن استقلّتها الأعين:

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا».

د- كلّ سير وسلوك تحت قدرة اللَّه جلّ وعلا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ».

ه- سلسلة المنظومة الطبيعية ذات غايات: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا».

و- عدم النظرة المقطعية ودعوة إلي نظرة طولية: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ».

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ..»، أذكر أيها الرسول استخلاف آدم وقد تقدّم تبيانه في الفصول السابقة وأنّ ظاهر ألفاظ آياتها كما هو مفاد الروايات هو لأجل تبيان الإمامة، واتّضح فيها أنّ رائد منظومة الهداة في الإيصال إلي المطلوب هو الإنسان الكامل، وأنّ التدبير في هذا المجال لا يختصّ بالملائكة كما يتوهّم ذلك أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. هذا وأنّ سورة الكهف اقتصرت علي هذا المقطع من القصّة وهو ذو الارتباط بالمحور الأصلي في القصّة.

سورة الكهف سورة الإمامة: … ص: 504

إلفاتة: وبعد كلّ ما تقدّم من قصّة أصحاب الكهف، بعد عرض كلّ من قصّتي

موسي مع الخضر، وذي القرنين، أصبح من المناسب الإلفات إلي زاوية التناسب بين القصص الثلاث:

حيث يطالعنا القرآن في سورة الكهف في القصّة الأُولي علي نموذج لم يكن نصيبهم من الهداية الإرائية أكثر من قضاء الفطرة وحكم العقل، وكأنّهم كانوا في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 505

زمن الفترة بين الرسل فلم يوَفّقوا لمعرفة الإمام والوصي الخفي آنذاك، ولكن لم يمنعهم ذلك من الاستجابة لفطرتهم وعقولهم، وإن كانت محدودة بالعمومات والأُسس العامّة الفطرية الأوّلية الإجمالية، فلم يحرموا من الهداية الإيصالية بالقدر الموازي لما عرفوه.

في حين نلحظ في القصّة اللاحقة أنّ دائرة ورقعة الهداية الإرائية أوسع من العقلية حيث اقترنت معها هداية تشريعية، فالخضر كان تابعاً لموسي ومتديناً بشريعته، سوي أنّ الهداية الإيصالية كانت خفية وبشكل غير رسمي.

في الوقت الذي نلحظ أنّ ذا القرنين زُوّد بالهداية الإيصالية الكاملة:

«وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

فالأنواع والدرجات التي أَلفتَ إليها القرآن في الهداية الإرائية الثلاث، وبما أنّ اللَّه بالغ أمره في من اتّبعها، فتكون الهداية الإيصالية لكلّ درجة متناسبة معها.

وعندما ندرس خطوات الأنبياء نلحظ أنّها متدرّجة بالشكل الذي سلسلته سورة الكهف، حيث إنّ أوّل خطوة يخطوها الرسول في طريق الدعوة إلي اللَّه بإراءة الأُمور الكلّية الفطرية ثمّ التشريعية في مرتبة ترافقها الهداية الإيصالية ذات الطابع السرّي غير المعلن، ثمّ تصل الذروة كما نشهده في قصّة موسي حيث أقام الدولة، وكذا سليمان والنبيّ صلي الله عليه و آله في بقعة من الأرض، وتُختم جميعاً بدولة المهدي عليه السلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ»، والذي كان نموذج ذي القرنين مثالًا له.

ولم يكتف القرآن بذلك كي ينبّهنا أنّ المجتمع البشري دوماً في حالة تقلّب وتغيّر في هذه الأدوار الثلاثة.

ثمّ إنّ الآيات لا تشير إلي انتماء أهل الكهف إلي شريعة

خاصّة، وكما في قوله تعالي: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 506

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» «1»

، علي الفترة لا يعني خلوّ الأرض من حجّة كما قد يتوهّم خصوصاً من تعبيره بالفاء في الآية الدالّة علي التراخي، وإنّما في كلّ عصر يوجد شريعة وهداية إيصالية، سوي أنّ هناك فترات يكون فيها المعصوم مخفياً، وإلّا فبم نفسّر نبوّة آدم وكيف نكيفها مع الفترة مع الانسياق للتوهّم؟

وهناك روايات «2» تدلّ علي أنّ الهداية الإرائية موجودة ومتوفّرة، وهي ما يحكم به العقل والفطرة العقلية في الإنسان وأنّه منجّز وأنّ الإنسان يؤاخذ عليها ويحتجّ بها عليه.

وقصّة أهل الكهف شاهد من بين شواهد كثيرة علي أنّ التجاوب مع هذه الهداية الإرائية يوصل إلي الهداية الإيصالية، فلا يحرم التسديد الإلهي في الوصول إلي الكمالات المنشودة والأغراض التي أراد اللَّه من عبيده تحقيقها.

وللتذكير والإيقاظ: نلفت إلي أنّ أحكام العقل لا تغني عن الشرع؛ لمحدوديتها وعموميتها ممّا يجعلها بحاجة إلي الشرع في تنزّلها وتفصّلها، ومن ثمّ لا نلحظ في ما حدّثنا القرآن عن معارف أولئك الفتية والتزامهم أكثر من الأُسس العامّة التي وفّرها الرسول الباطن لهم، كالتوحيد وبعض الفروع الواضحة التي لا تخفي علي العقل كقبح الكذب، كما أنّ القرآن لم يحدّثنا عن توفّرهم علي الهداية الإيصالية أوسع مدي من هدايتهم الإرائية.

النموذج الرابع القرآني: قصّة طالوت … ص: 506

وتبدأ من آية 246 البقرة وتنتهي بآية 253.

في البداية نذكّر مرّة أُخري: إنّ منهجنا في التفسير يعتمد علي الروايات التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 507

وردت في ذيل الآيات مفسّرة لها، والتي يصنّف قسم كبير منها في حقل التأويل،

والآخر لمعالجة الظهور الابتدائي.

وبما أنّ التأويل له صلة بمنصّة الظهور وقد أَلفتَتَ الكثير من الروايات إلي كيفية ذلك- صرنا في صدد التعرّف علي الظهور الثاني بتوسّط الظهور الأوّل ببركة الروايات.

وهناك رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تلفت إلي أنّ قصّة طالوت التي قصّها القرآن هي لضرب المثل للإمامة، وأنّها فيمن ولمن وممّن تكون.

ونبدأ الحديث بعرض سردي لقصّة طالوت وتجميع مفرداتها ثمّ ننتقل إلي دراستها محورياً.

«أَلَمْ تَرَ إِلَي الْمَلَإِ..»، الملأ لغة: وجوه القوم وأعيانهم، فإنّه بهم تملأ العين، أو مجلس البلد وندوته.

«مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَي..»، في الروايات بعده خمسمائة سنة.

«نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..»، جالوت القبطي كما في الروايات وما يأتي في الآيات، حيث كان مستعمِراً لبعض أراضي بيت المقدس، ويبدو من الآية أنّهم كانوا يفتقدون الملك القوي المدبّر.

«لِنَبِيٍّ لَهُمُ..» ظاهر في أنّه رسول؛ حيث يفترق النبيّ عن الرسول فيما إذا كان قد نبّأ لنفسه أو لأهله، وأمّا إذا كان مبعوثاً لأُمّة فهو رسول، هكذا ورد في الروايات، ومثله في الآيات: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» «1»

، نعم ليس شرطاً في الرسول أن يكون صاحب شريعة؛ إذ يمكن أن يكون تابعاً لشريعة رسول قبله، والاصطلاح القرآني في جملة من استعمالاته

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 508

في القرية والمدينة ليس بالعمران والحضارة المادّية وإنّما المدنية والتحضّر بالمعرفة الأديانية.

«ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا..»، ظاهره في أنّه مغاير للنبوّة، حيث طلبوه من النبيّ، وأنّه غير انتخابي، وإنّما مجعول من اللَّه تعالي، وأنّه أرفع منزلة من ذلك النبيّ؛ وإلّا لما أمكن أن يحكم المفضول الفاضل.

ثمّ إنّنا نؤكّد مرّة أُخري علي أنّ الإمامة وإن كانت تستبطن الإيصال وأنّ لطف اللَّه تعالي بالبشر ونعمته عليهم يتمّ بها فهي ضرورة، إلّاأنّها ليست بالإلجاء

الإعجازي التكويني، ومن ثمّ كان علي المجتمع- كما ذكرنا في قصّة ذي القرنين- أن يبادر ويتحرّك تحت راية الإمام من أجل تحقيق الأغراض الإلهية المرتبطة بعموم المجتمع.

«إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا..»، فهذا الملك عهد إلهي خاصّ، وعبّر عنه القرآن الكريم ببعثة إلهية، فالإمامة بعثة إلهية أيضاً؛ لما تشمل من مقام غيبي لدني، والمبعوث من اللَّه تعالي إماماً بالتالي يكون سفيراً وله سفارة إلهية تغاير سفارة النبوّة والرسالة.

فكون الإمامة سفارة إلهية وبعثة أصل قرآني، وليس بالانتخاب والتعيين من البشر، وطالوت من سلالة بنيامين أخ يوسف عليه السلام ومن ثمّ كان محور اعتراضهم؛ حيث كانوا يرون أنّ الملك منحصر فيهم وهم أبناء لاوا الأخ الأكبر ليوسف، وقد صاغ القرآن اعتراضهم: «أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ»، وكان جواب النبيّ لهم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ..» فالأمر بيده تعالي، لا أنّه يخضع للمقاييس العادية التي يتصوّرونها هم، وإنّما هو نصب إلهي لا ملك دنيوي، ومن ثمّ ستذكر الآيات اللاحقة معجزة هذا الملك، والآية والمعجز دليل علي أنّ النصب تشريعي إلهي، فلابدّ أن يستجيب له البشر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 509

باختيارهم؛ وإلّا حقّ عليهم العذاب.

«وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ»، يدلّ علي أنّ المشيئة التكوينية أيضاً اقتضت أن يكون طالوت ملكاً، وكلتا المشيئتين مرتبطتان بالهداية الإيصالية، والتدبير الإلهي للأُمور الإجتماعية العامّة.

«قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ..»، إخبار السماء لنبيّنا صلي الله عليه و آله باعتراض اليهود علي نصب السماء شخصاً فكيف بنصب شخص ليس منهم، لبيان واحدة من أسرار عداء اليهود للإسلام، كما في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام.

«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ …»، تبين الآية المباركة ضرورة المعجزة في الإمامة-

مع الالتفات إلي أنّ القرآن لم يعبّر عن المعجز إلّابالآية والبينة ونحوهما، والتعبير بالعجز اصطلاح كلامي- وأنّ النصّ لا يكون وحده في السنّة الإلهية، بل مع المعجزة والآية. وعندما نطالع تاريخ الشيعة مع أئمّتهم نلحظ أنّهم كانوا يتحرّون عن المعجز العلمي والعملي كشي ء إضافي للنصّ.

«سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ..»، في الروايات: ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أو روح مخلوق من اللَّه يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شي ء كلّمهم وأخبرهم.

«وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَي وَآلُ هَارُونَ»، يدلّ علي أنّ الإمام وارث من سبقه، والتركة وإن كانت مادّية إلّاأنّ لها سنخ ارتباط بالغيب، كعصي موسي وخاتم سليمان وقميص إبراهيم ويوسف، كما أنّ الآية تشير إلي أنّ الوراثة في بيوت الأنبياء، وأنّها ليست وراثة كسروية ترابية بل وراثة اصطفائية كما في قوله تعالي:

«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ..». «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ»، الحفظ الغيبي يدلّ علي خطورة وعظم هذا المقام وعظم وخطورة مواريث الأنبياء، والتي هي الآن جميعها عند أهل بيت النبوّة عند خاتمهم المهديّ (عج).

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 510

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ..»، فلا إلجاء جبري تكويني، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ»، فارق طالوت وجنوده المكان.

«إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ»، يكشف عن علمه اللدني وإبلاغه إرادات اللَّه التفصيلية لا بتوسّط النبيّ، فيدلّ علي إمامته وأنّ الإمام يحيط علماً بالمشيئة والإرادة الإلهية التفصيلية، لا سيما وأنّ الإرادة منسوبة إلي الباري صرفاً، كما يكشف عن أنّ التدبير يُباشر من قبل اللَّه تعالي، فالحاكم الأوّل هو تعالي، بل في جملة من مواقع حكومة الرسول صلي الله عليه و آله يسند إليه تعالي الحكم التفصيلي ولا يسند إلي الرسول، أي وإن كان بتوسّط الرسول صلي الله عليه و آله، كما

ألفتنا إلي ذلك مراراً-.

«فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»، ظاهر في أنّ الغاية من هذا الامتحان هو التولّي وعدمه، واستعراض القرآن له للإلفات إلي أنّ التولّي لصيق بالاعتقاد بالإمامة، بل هو في درجاته الأُولي، والوجه الآخر للإذعان والإيمان بالإمامة كما أوضحناه في الفصل الثالث من الجزء الأوّل.

فالأُمّة الواحدة وحدتها علي أساس التولّي وعدمه، فالملأ كانوا علي شريعة موسي، إلّاأنه لم يكف ذلك حتّي صُنّفوا إلي صنفين، من اتّبع الإمامة، ومن لم يتّبعها.

ولا يخفي أنّنا لحدّ الآن لاحظنا جملة من مقوّمات الإمامة وأبرز معالمها، وليكن تجميعها وضبطها بالشكل التالي:

أ- إنّ الإمامة بالنصب والبعثة الإلهية: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ».

ب- إنّها اصطفاء: «اصْطَفَاهُ».

ج- ذو علم متميز لدني: «بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ».

د- التكامل الجسدي والقدرة اللدنيان: «وَالْجِسْمِ».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 511

ه- من شأنه المعجزة: «آيَةَ مُلْكِهِ».

و- وارث من سبقه: «وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ».

ز- التولّي هو الوظيفة المطلوبة من الأُمّة بالنسبة لإمامها: «فَإِنَّهُ مِنِّي».

«فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا»، هو المتولّي، وبقانون لتركبنّ طبقاً عن طبق تعرف النتيجة في عالمنا الإسلامي، كذا ذكر القرآن الذي هو معجزة الإسلام، قرينة علي أنّ ما حصل آنذاك سيحصل بعد.

«فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ»، عرف المتولّي لطالوت بالذين آمنوا، وهذا هو الذي يدّعيه الشيعة من أنّ قضية الإمامة من أُصول الدين الإيمانية.

خاصّة مع الإلفات إلي أنّ الشرائع متطابقة فيما بينها علي مستوي المعارف، بل هذا ليس محلّ للنسخ؛ لأنّه من أجزاء الدين الواحد للأنبياء لا من الشريعة التي يعرضها النسخ، نعم تتفاوت بينها بالإجمال والتفصيل.

«وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ»، المقام الذي كان لطالوت أُعطي لداود، ولم تبين هذه الآية نبوّته، وإنّما اقتصرت علي: «آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ»، ويظهر من الآية أن شجاعة وبأس داود

في اللَّه أهّلته لهذا المنصب، فإنّ ذكر الأوصاف قبل المنصب يدلّ علي الأقلّ علي التناسب بين الأمرين.

«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ»، سنّة إلهية أن يُدفع غيّ البعض بالبعض، وله مراتب أقصاها القتل، وقد طبّقت لدفع طالوت وجنوده لجالوت، وهو يعني أنّ صلاح الأرض يتحقّق بالإمامة، وبعبارة أدقّ: إنّ بالإمامة التي هي خلافة اللَّه تعالي في الأرض- صلاح الأرض وتطهيرها من الغي والشرّ.

ثمّ يلحظ من مجموع الآيات المرتبطة بطالوت أنّ الإمامة لم تُعرَف إلّابالملك، (ملك التصرّف في الأُمور العامّة) كذا في آية: «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 512

وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «1»

.وعندما نراجع الروايات نراها تلفت إلي أنّ إبراهيم أحد الأربعة الذين بُعثوا بالسيف، إلّاأنّه لم يعهد منه الإمارة، كذا بعض من جاء ذكرهم في الآية، ومن ثمّ كان التعبير: «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» مورداً للتساؤل، وجوابه: أنّ الملك باصطلاح القرآن ذو جنبتين:

الأوّلي: تكوينية كالاصطفاء والعلم الخاصّ والسكينة وفصل الخطاب والمواريث، وهذه متوفّرة مكّن من الملك الظاهر في العلن أو لم يُمكّن، لكنه متمكّن من التصرّف في النظام الاجتماعي البشري بصور خفية متستّرة.

الثانية: التشريعية وهو الأخذ بزمام الأُمور، وهذا البعد قد أُلقي تنفيذه علي عاتق الأُمّة، بأن تمارس دورها بإقدار الإمام وإيصاله سدّة الحكم الظاهر في العلن.

وقد عبّر عن الملك الذي مُنح لداود في آية أُخري بالخلافة في الأرض: «إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ» «2»

.وقد جاء في آية أُخري أنّ الخلافة في الأرض سنّة إلهية ما دامت البشرية، كما نلحظ ذلك في آية من آيات سورة البقرة: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، والذي طُبّق علي آدم. وبالتالي سنخرج بنتيجة، هي أنّ الإمامة قانون تكويني إلهي وضعه اللَّه للبشرية ما دامت في هذا

العالم.

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من بعد الرسل، ممّا يدلّ علي وجود سنّة إلهية، وهي سنّة الاقتتال بين أتباع الرسول بعضهم مع البعض الآخر، ومن ثمّ استشهد أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل بهذه الآية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 513

«فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» «1»

، تبين سرّ الاقتتال وخلفيته، وهو أيضاً «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، ومن هنا نعرف أنّ الاختلاف الحادث لا ينسجم مع اجتهاد كلّ من الفريقين وإصابته؛ وإلّا لا معني لتصنيف أحدهما فريق الإيمان والآخر فريق الكفر.

وبالإضافة إلي أنّه اختلاف مع البينة، فلا معني للتأويل والاجتهاد.

النموذج القرآني الخامس: قصّة مريم … ص: 513

آل عمران من آية 41 إلي 47.

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ»، وفي بعض القراءات كما في الروايات: وآل محمّد.

«ذُرِّيَّة»، والتوارث في الاصطفاء من باب التوارث الروحي المعنوي لا المادّي، والمعبّر عنه: بالخيرة بعد الخيرة، والنجباء بعد النجباء.

«إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ»، عرض لقصّة ومصداق للذرّية المصطفاة.

«إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي»، كان في شريعة بني إسرائيل أنّ للأب مُلكية ابنه المطلقة، ومن ثمّ كان يستطيع إيقافه علي المسجد.

«وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَي»، إمّا نقل كلام امرأة عمران أو كلام اللَّه، وعلي الحالين يدلّ علي عدم المساواة بين الجنسين علي صعيد الوظائف والقانون في الدنيا، وإن أمكن للمرأة الترقّي في مجال التكوين والمعني إلي حدّ الاصطفاء، وهذا عموم فوقاني من نوع الجعل الدستوري، وإن صحّ التعبير عنه فهو أصل قانوني من أُسس التشريع ومقصد من مقاصد الشريعة، وبالتالي فالتشريعات التي نحتمل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 514

أنّها وظيفة خاصّة بأحدهما لمناسبة متميزة في أحد الجنسين لا يمكن التمسّك بعمومها.

«وَإِنِّي أُعِيذُهَا..»، كما يظهر من الروايات أنّه دعاء بالعصمة، ومع قرينة الاصطفاء وما يأتي من أنّه

تعالي تقبّلها بقبول حسن، دليل العصمة واستجابة الدعاء.

«وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا»، النبت يعني النمو، والآية ظاهرة في أنّ التنشئة المادّية للمصطفي تختلف عن غيره، من قبيل تهيئة اللقمة الحلال..

«زَكَرِيَّا»، زوج خالتها..

«أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»، نوع من التكريم والحبوة الإلهية والاعتناء الخاصّ مع أنّها ليست نبيّاً ولا إماماً، وهذه الآية تكشف عن نوع ارتباط غيبي بين مريم وبين اللَّه تعالي، والروايات دلّت علي أنّ ملكاً كان يأتي لها بالطعام.

«هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا..»، بعد أن شاهد مريم وكرامتها..

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ..»، تصريح بارتباطها بالغيب، والاصطفاء الأوّل كما في الروايات هو الاختيار، والاصطفاء علي النساء هو الحجّية عليهنّ.

وقد ظهر لحدّ الآن:

أ- ارتباط مريم بالغيب ونوع من الاتصال من دون وساطة نبيّ كما سيأتي في عين تبعيتها لشرائع الأنبياء.

وهذا ليس غلوّاً في مريم، وبعدما عرفت أنّها لم توصف بالنبوّة، ومعه لا نستغرب إذا كان لفاطمة عليها السلام مصحف فيه تأويل الكتاب.

ب- اختصاص وليّ حجّة بخطاب إلهي خاصّ، وقد يُكلّف بتكاليف خاصّة كما سيأتي لا يعدو مقام التطبيق، لا أنّه خارج عن عموم شريعة موسي كما في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 515

المثال.

والظاهر من بعض الروايات وإن كان أنّ مريم محلّ للحجّية والمعجزة والآية، إلّا أنّها ليست محلّاً ساذجاً كتكلّم الشجرة وشقّ القمر، وإنّما هي متمّمة للإعجاز ودخيلة فيه، حيث بينت الحجّة والمعجزة في إشارتها إليه، وإحضارها للمعجز في وسط بني إسرائيل كما سيأتي مفصّلًا، فهي شريكة عيسي في تبيان معجزته، ومن ثمّ جاء في القرآن: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «1»

.«يُبَشِّرُكَ …»، نوع من الإنباء بالغيب المستقبلي، حيث كانت البشارة بنبيّ وباسمه المجعول من قبله تعالي ووجاهته الدنيوية ومكانته الغيبية (قرباً منه تعالي) ومعجزته..

وهذا مجانس لما تعتقده الشيعة في مصحف

فاطمة، فإنّه مجموعة إنباءات غيبية مستقبلية «ما كان وما يكون إلي يوم القيامة»، وهو تأويل للكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ غائبة في السماء والأرض.

«قَالَتْ رَبِّ..»، كانت تخاطبها الملائكة إلّاأنّها خاطبت ربّها مباشرة، والظاهر أنّ الجواب «قَالَ» ليس بواسطة الملائكة، وإن كان قد يستفاد أنّه بواسطة جبرئيل بقرينة الآيات الواردة حول مريم في سورة مريم، حيث تمثّل لها جبرئيل بشراً سوياً، وأخبرها أنّ اللَّه أمره أن يهب لها غلاماً، فقالت له: أنّي يكون لي غلام؟ فأجابها جبرئيل..

ولكن ما ذكر لا يصلح قرينة بعد الالتفات إلي أنّ الحوار مع جبرئيل حوار آخر حصل بعد مدّة من الحوار الأوّل المذكور في سورة آل عمران عندما انتبذت مكاناً قصياً، وقرينة ما ذكرنا إجابة جبرئيل الظاهرة في أنّ اللَّه تعالي قد أجابك من قبل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 516

عن هذا التساؤل والاستغراب: «قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «1»

.وحيث إنّ الخطاب مع مريم لم يكن بواسطة رسول، فهو إمّا من قسم الوحي المباشر، أو من وراء الحجاب بموجب الحصر المذكور في الآية: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «2»

.والترتيب المذكور في الآية معنوي علاوة علي كونه ترتيباً ذكرياً كما في الروايات، ومن ثمّ كان التكليم من وراء حجاب فضلًا عن الوحي أرفع ممّا كان بواسطة الرسول، ممّا يعبّر عن سموّ مكانة مريم.

وعندما نرجع إلي النماذج التي سبق الحديث عنها لا نلحظ هذا الارتباط المباشر مع اللَّه فيها، وعلي الأقلّ لا صراحة في ذلك، علي العكس من مريم فإنّ الآية صريحة في الخطاب المباشر.

«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ

وَأُمَّهُ آيَةً..» «3»

، سبق أن ألفتنا إلي دلالة الآية علي شراكة مريم في الإعجاز والحجّية، وهو تقرير لعقيدة النصاري في مريم أنّها من أركان العقيدة ولكن لا بما هي محرّفة من التأليه.

كما أنّ مدلول الآية أعمّ من اصطفائها علي نساء العالمين المدلول لآية أُخري.

بالإضافة إلي أنّ الآية ليست لخصوص أبناء الشريعة المسيحية، وإنّما لكلّ البشر بما في ذلك أبناء الشريعة المحمّدية، بعد أن كانت واحدة من عقائدنا الإيمان بآيات اللَّه، ومن ثمّ كان علينا بعد إخبار القرآن الإيمان بمقام السيدة مريم،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 517

كما كان من الضروري الإيمان بنبوّة عيسي.

ويظهر أيضاً أنّه ليس بدعاً في شرائع السماء أن تأخذ امرأة هذا المقام وأن يكون الإيمان بها جزءاً من أُصول الدين.

بالإضافة إلي أنّها ضربت مثلًا كما في سورة التحريم. وإلي القاعدة القرآنية أنّ القرآن لا يذكر إلّاما فيه العبرة في حياة المسلمين، والروايات الكثيرة الدالّة علي أنّه يجري في حياة المسلمين ما جري علي الأُمم السابقة حذو القذّة بالقذّة.

من هنا أصبحت الفرصة مواتية للحديث عن الزهراء عليها السلام شيئاً ما، حيث يمكن لنا أن نفهم ما قيل في حقّها أو علي تقدير كونه رواية، من قبيل: «نحن حجج اللَّه وفاطمة حجّة علينا»، و «وأنّها برزخ بين النبوّة والإمامة»، و «أنّها رفع عنها حجاب النبوّة»، وكثير غيرها، ممّا يمكن أن يستشهد له بطوائف أُخري متواترة معنوياً، من قبيل روايات ترتّب خلقة أنوارهم عليهم السلام، ومن قبيل روايات أنّ أحد مصادر علوم الأئمّة مصحف فاطمة عليها السلام، ومن قبيل أنّها أوّل مصاديق القُربي الذين لهم ولاية الفي ء والأنفال، وأنّها الشاهد شهادة لدنية بصدق النبوّة في آية المباهلة لمشاهدتها عياناً حقيقة النبوّة … وغير ذلك من الآيات والروايات

مفادها أنّ الزهراء وإن لم تكن نبيّاً وإماماً إلّاأنّها حجّة وواسطة علمية للأئمّة عليهم السلام من ذريتها، أي أنّها مصدر من مصادر علومهم.

بالإضافة إلي أنّ إدانتها موقف السقيفة لا يقلّ دلالة في الحجّية عن قول الرسول صلي الله عليه و آله في يوم الغدير، ويشهد لذلك قبول السنّة ذلك كبروياً، ومن ثمّ ركّزوا إنكارهم للصغري أي وقوع الإدانة منها للسقيفة.

فهي كمريم في أنها شريكة النبيّ صلي الله عليه و آله في الآيتية علي مذهب الحقّ والإمامية، حيث لم يكن بعد النبيّ صلي الله عليه و آله مصدر حجّة يرجع إليه بعد جحودهم لدلالة الكتاب علي الإمامة وجحودهم حجّة عليّ عليه السلام، لم يكن إلّاالزهراء، ومن ثمّ يفهم ما ورد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 518

في وصية النبيّ صلي الله عليه و آله: «يا عليّ انفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل عليه السلام» «1»

، وكذا يفهم من احتجاج الأمير بالزهراء.

وآية التطهير تدلّ علي الاصطفاء والحجّية للزهراء بإرادة إلهية مشتركة في الخمسة أصحاب الكساء.

وسورة الدهر تثبت مقاماً أرفع من مقام الأبرار لأهل البيت عليهم السلام، وبضميمة سورة المطفّفين فإنّهم المقرّبون الذين يشهدون كتاب الأبرار.

كلّ هذا وأمثاله من الآيات والروايات «2» يملي الاعتقاد بمقام الصدّيقة الزهراء.

فإنّها وجود تنزيلي للنبيّ صلي الله عليه و آله، فهي لها الحجّية علي المسلمين في إثبات الإمامة، والبعد التقديسي لها من اللَّه ورسوله معلول مقامها السامي.

«فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا..»، جبرئيل الذي عبّر عنه في آية أُخري بالروح الأمين، وليُلتفت إلي أنّه لم يصرّح في آيات آل عمران بنوع الملائكة الذين حدّثوها، بينما صرّح به في آيات سورة مريم، ممّا يكشف عن أن التكليم بواسطة الرسول ذو درجات ومراتب..

وفي

الروايات أنّ التمثّل الذي حصل لمريم أحد أنماط نزول الوحي عليه صلي الله عليه و آله، ونمط آخر أن يسمع من دون رؤية، وثالثة أن يراه ومن معه..

«فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا..»، خاصّية الوارد الرحماني- الهاتف والمكاشفة- التي بها يختلف عن الأنواع الأُخري كالشيطاني- أنّه ذو هيبة وسكينة ووقار ويدعو إلي الخير بأتمّ أشكاله..

«قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا..»، في الوقت الذي كان الوارد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 519

رحمانياً، إلّاأنّ مضمون الرسالة كان شديداً غايته علي مريم، وتفرّ منه لارتباطه بعرضها وناموسها، ومن ثمّ اعترضت مرّة أُخري حين قالت:

«أَنَّي يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا»، ويلحظ في المحادثة السابقة في سورة آل عمران أنّه لم تعتر مريم حالة الاستيحاش كما ظهر هنا، وربما لأنّها كانت تسمعهم هناك من دون أن تراهم.

«قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ»، تذكير مريم بما دار من حوار وحياني سابق.

قد يقال: كيف ينسجم هذا الاعتراض من مريم مع ما لها من مقام سامٍ، ثمّ هل نست الوحي السابق كي تعيد الاعتراض ثانية؟

والجواب: لم تنس مريم، ولكن صعوبة الموقف حيث إنّ القضية مرتبطة بالعرض «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا»، وبه يفسّر قولها: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا».

وفي الروايات: أنّ الأنبياء والرسل يتحمّلون البلاء إلّاما يرتبط بالعرض.

«وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا»، وفي آل عمران: «إِذَا قَضَي أَمْرًا»، الظاهر في التعليق، ومن ثمّ يصلح قرينة إضافية علي أنّ ما جري في السورتين حواران اثنان وحيانيان.

«فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا»، لها دور رعاية وكفالة لصاحب الشريعة وباختيارها، وهو يوافق ما يظهر من ثنايا زيارة فاطمة بنت أسد من أنّ رعايتها للرسول صلي الله عليه و آله كسبها مقام صفة بأنّها صدّيقة.. فإنّ لها إسهاماً في

التمهيد لظهور النبيّ والمعجز.

ودور مريم وإن كان يحتوي علي مخاطر لارتباطه بالعرض فهو سنّة قرآنية للجهاد بالعرض، إلّاأنّه كان لكشف دجل وزيف علماء اليهود المقيمين علي تحريف الديانة، ولم يتغلّب علي فضحهم النبيّ زكريا ولا يحيي، وهو نظير ما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 520

ورد في حرم وعيالات سيد الشهداء عليه السلام: «شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا».

ونظير تصدّي السيدة الزهراء حتّي عصرت بين الحائط والباب- لكشف الزيف والدجل المتلوّن بالدين والديانة، ونظير نقل إبراهيم هاجر إلي البرية تمهيداً لظهور حكمة اللَّه ومعجزته.

«فَنَادَاهَا..»، استمرار التواصل الغيبي مع مريم ورعايتها وتسديدها.

ووجود أوامر كُلّفت بها مريم مباشرة من دون وساطة نبيّ، مع خطورة بعض هذه الأوامر كارتباطها بصرح الشريعة المسيحية وأصل نبوّة عيسي ونسخ الشريعة الموسوية، بحيث لو أخلت مريم عصياناً لما تحقّقت المعجزة.

«مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ..»، عرّضوا بها بأبشع تهمة، وقد كانت هذه الظاهرة المثيرة سبباً في الانشداد إلي المعجز والالتفات إليه وكشف قناع الزيف عن علماء اليهود، كما حصل ذلك من السيدة الزهراء حيث عرّت نفاق السقيفة علي المكشوف والسيدة زينب حيث كانت سبباً في الانتباه إلي افتضاح مسار السقيفة وأنّه هو مسار الأحزاب وبني أُمية.

«فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ»، نقلتهم من التركيز علي شي ء دني ء للغاية إلي خطير للغاية.

وبهذا ينتهي الحديث عن آيات مريم في سورة مريم.

وهناك ما رود في سورة التحريم، حيث أُشير فيها إلي أنّ مريم مثل يضربه تعالي، والمثل ليس لخصوص قوم دون قوم وإنّما لسائر البشرية ولهذه الأُمّة الإسلامية.

كما أشير إلي أنّها صدّيقة: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ»، فقابل بين الكلمات والكتب، وأنّها «كَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ»، وتشريفها ب: «فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا..»..

والخلاصة: إنّه بالتدبّر في مجمل الآيات الواردة في مريم، ينبثق هذا السؤال،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

521

وهو: كيف ارتبطت بالتكليم الإلهي، وكيف وثقت أنّه من عند اللَّه مع أنّها ليست نبيّاً ولا وصيّ نبيّ، كما لم يتمّ ذلك بتوسّط نبي زمانها، بل تمّ ذلك من دون وساطة رسول أصلًا، وكيف صدّقت بنبوّة نبيّ آت وبشريعته المقبلة، وكيف قامت ببدايات أعباء الرسالة قبل عيسي حتّي جعلها القرآن في درجة عيسي، كما يظهر من قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ»، و «يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ»، و «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ»، و «كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ..» «1»

، الدالّة جميعاً علي أنّ مريم كانت في مصاف الرسالة ومن أصول الدين، خاصّة مع الالتفات إلي أنّ المخاطب به مثل زكريا- علي فرض حياته- ويحيي وأنبياء زمانها؟ لا جواب علي هذا السؤال سوي أنّها معصومة مصطفاة، وأنّ لها مقاماً لا يقلّ عن مقام النبوّة.

ومع كلّ هذا، لا عجب أن تكون فاطمة عليها السلام (شافعة للأنبياء)، كما في الرواية المنقولة، كيف لا وهي من أهل آية التطهير الذين شهد القرآن أنّهم يمسّون الكتاب المكنون كلّه، ولديهم العلم بالكتاب المبين العلويّ كلّه، بينما لم ينعت القرآن الأنبياء أولي العزم فضلًا عن غيرهم بأنّهم يعلمون الكتاب كلّه، بل قال في حقّ موسي عليه السلام مثلًا: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، فما اوحي لموسي هو (من كلّ شي ء)، وفي حقّ عيسي عليه السلام: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «3»

، فكان ما جاء به بعض العلم، بينما وصف القرآن أنّه مهيمن علي ما بين يديه من الكتب التي بعث بها الأنبياء السابقين، وأنّه تبياناً لكلّ شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 522

أو: «علي معرفتها دارت القرون الأولي»، بل

يمكن أن نسجّل جملة امتيازات قرآنية للسيدة الزهراء علي مريم عليهما السلام.

الامتياز الأوّل: افتراق في نوعية التطهير بين فاطمة الزهراء عليها السلام وبين مريم، حيث إنّ الذي ورد في مريم التعبير بصيغة الفعل الماضي، وهو دالّ علي وقوع التطهير فيما سبق وإلي حدّ درجة من العصمة، بينما الذي ورد في فاطمة عليها السلام هو إذهاب الرجس عنها، أي توقيتها عن أن يقترب إليها وإلي أصحاب الكساء الرجس، وعبّر عن التطهير بالفعل المضارع الدالّ علي الاستمرار وأكّد بالفعل المطلق (تطهيراً)، مضافاً إلي أنّ هذا التطهير الخاصّ المستمرّ هو من نمط خاصّ بسيد الأنبياء وأهل بيته أصحاب الكساء، فأين ذاك من ذا؟

الامتياز الثاني: إنّ لفاطمة علم الكتاب دون مريم عليها السلام؛ لأنّ فاطمة عليها السلام من المطهّرين في أُمّة النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وقد وصف المطهّرون من هذه الأُمّة بقوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «1»

، وهو وصف للقرآن، ثمّ أردف ب:

«لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»

، فشهود حقيقة القرآن والكتاب كلّه بتلك الدرجة من الكرامة في كنانة الكتاب وهو ذو المجد القرآن المجيد في حفظ اللوح المحفوظ، ولفاطمة عليها السلام حيث إنّها من المطهّرين في آية التطهير علم الكتاب الموصوف في القرآن بأوصاف متعدّدة: «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، و «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «4»

، وغيرها من الأوصاف.

وهذا العلم شهودي لدني، بينما لم يكن للمطهّرين في الشرائع السابقة حتّي الأنبياء هذا المقام؛ إذ إنّهم لم يشهدوا إلّاما تنزّل عليهم، بينما مريم سلام اللَّه عليها

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 523

وصفت بأنّها صدّقت بالكتب وهو غيب بالنسبة إليها، وبهذه الآيات يتبين أحد دلالات القرآن بأفضلية خاتم الأنبياء وأهل

بيته علي سائر الأنبياء.

الامتياز الثالث: وهو وليد للامتياز السابق وهو شهادة الأعمال لارتباطه بالكتاب المكنون، وقد حفل ملف آيات الإشهاد في القرآن الكريم علي جميع الناس من الأوّلين والآخرين أنّ هؤلاء الأشهاد من هذه الأُمّة وأنّ سيد الأنبياء هو الشاهد علي الأشهاد وأنّ هؤلاء الأشهاد هم من ذرّية إبراهيم وإسماعيل كما أشارت إليه آخر سورة الحج، ودعاء إسماعيل وإبراهيم في سورة البقرة، وكذا في سورة الدهر حيث بينت أنّ عباد اللَّه الذين يطعمون الطعام للمسكين واليتيم والأسير هم الذين يسقون الأبرار من عين الكافور، فلهم الإشراف علي الأبرار وأعمالهم كما في سورة المطفّفين أيضاً، وهذا المقام لم تُنعت به مريم عليها السلام في القرآن الكريم.

الامتياز الرابع: آية المباهلة.. لا بتقريبها السطحي وهو أنّه صلي الله عليه و آله لم يباهل إلّا بأعزّ ما لديه، وإنّما بما يستبطنه هذا التقريب من معني دقيق وهو: أنّ المباهلة نوع من الدعاء والملاعنة والقسم والحلف لإثبات الحقّ وتوثيقه، فالآية تدلّ علي أنّ الدين في بعده الغيبي مرتبط بهؤلاء الخمسة، بعد الالتفات إلي أنّ الذي كان يستهدفه الرهبان من هذه العملية إطفاء برهان النبيّ صلي الله عليه و آله الذي يمثّل رمز الدعوة وحربتها، فضمّ النبيّ تلك الصفوة معه في هذه العملية للتدليل علي رمزيتهم وأنّهم أصحاب الدعوة أيضاً وشركاؤه، فمن قبله فبها، ومن ثمّ قال تعالي:

«فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «1»

، في مقابل الصادقين، فكان التعبير بالجمع لا بالمفرد (علي من كان كاذباً)، فهي شهادة بالشركة علي أنّ نبوّته خاتمة وهي دين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 524

الإسلام، ونبوّته خاتمة النبوّات وأنّ المسيح عبداللَّه ورسوله، خاصّة مع وجود قرابة آخرين له ولفيف من الصحابة وبعضهم يُزْعَم له شأن في الإسلام، إلّا

أنّه صلي الله عليه و آله لم يشركهم في العملية.

أضف إلي ذلك أنّ تعيين هؤلاء كان من اللَّه سبحانه وتعالي وليس من النبيّ، ممّا يؤكّد أنّ القضية ليست بحكم المعزّة والقرابة.

ولو أبيت عن قبول دلالة القصّة علي فكرة كونهم أصحاب الدعوي شراكة بنحو الطولية والتبعية، وأنّها لا تعني إلّاالتوثيق وقد حصل بهؤلاء، فنقول: إنّ التوثيق عادة يكون بالثقل، وإنّ هؤلاء عليهم السلام أثقل المسلمين، ومن ثمّ تمّ اختيار اللَّه لهم للوقوف إلي جانب النبيّ صلي الله عليه و آله في هذه العملية، فهم وثيقة للدين كما هو صلي الله عليه و آله، وعندما نستذكر زيارة الرضا عليه السلام نلحظ فيها أنّ كلّ إمام في عصره آية حقّانية للنبيّ ومعجزة صدقه.

النموذج القرآني السادس: قصّة أُمّ موسي … ص: 524

سورة القصص من آية 1 إلي 13.

في المقدّمة نشير إلي مدلول آية «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ..»، فإنّ الواضح منها الاستمرار وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلّا لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ علي الاستمرار.

«وَأَوْحَيْنَا إِلَي أُمِّ مُوسَي»:

أ- يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسي وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عج) وخفاء شخصه وظفره.

ب- لم ينصّ في الآية علي أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 525

في الروايات أنّها نوديت وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية علي أنّه من أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

«أَنْ أَرْضِعِيهِ..»، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»..

مثل هذه الأوامر التفصيلية من اللَّه تعالي هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال

الحقّ تعالي ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة.. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة علي أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل «وَأَوْحَي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ..» «1»

بعد الالتفات إلي أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تدركه الفطرة، يضاف إلي ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسي بالوحي المذكور دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلّا لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلّامع كون القناة معصومة، وإلّا لم تكن تستوثق منه.

هذه القصّة وسابقاتها تدفع الإنكار علي مقولة الشيعة بأنّ الإمام كيف يرتبط بالوحي بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسي بدائرة أوسع من حجّيتها علي نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.

«وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»، فقد آمنت أُمّ موسي برسالته قبل أن يُرسل، كما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 526

آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد صلي الله عليه و آله قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.

«إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ»، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شي ء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعرضها وعفّتها وهي سيدة العفّة في زمانها.

لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو علي حساب أعزّ ما لديهم: «لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَي قَلْبِهَا».

النموذج القرآني السابع: قصة لقمان … ص: 526

وهذا النموذج وإن لم يكن نموذج للإمامة ولا للحجّية المصطفاة، إلّاأنّه نموذج علي الهبة اللدنية الإلهية، وهي ليست مقام نبوّة أيضاً. نعم الحجّية في

الحكمة هو في ذاتها ومقالاتها حيث إنّها منطوية علي الدليل والبرهان، وهاهنا نقاط يُلفت إليها:

1- تشير الروايات إلي أنّ لقمان لم يصل إلي مقام الحكمة إلّابعد أن واظب علي جملة من السنن، منها أنّه لم يكن يتكلّم إلّاعند الحاجة.

2- وتشير أيضاً إلي أنّه قبل أن يُمنح هذا المقام خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة، علي العكس من داود.

3- وتشير أيضاً إلي أنّ سلمان المحمدي أعظم حكمة من لقمان، وفي زيارته والروايات الواردة في شأنه إشارة إلي مقامات خاصّة، من قبيل أنّه (باب علم الوحي) و (أدرك علم الأوّلين والآخرين).. بل في الروايات يستشهد الصادق عليه السلام بكلمات سلمان وهو دليل حكمة سلمان.

4- وفي الروايات: مَن أخلص للَّه أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 527

لسانه.

5- يظهر من سورة لقمان وممّا ورد في سلمان أنّ هذا المقام والمنزلة مفتوح لكلّ مَن يجاهد نفسه، ومثل مقامات أُخري كالصدّيقين. وفي رواية في كفاية الأثر للخزّاز وغيره يشرح الصادق عليه السلام هذه المقامات ويذكر الطريق إليها.

6- يظهر أنّه مقام لدني كالنبوّة بحكم التخيير.

«وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ..»، وقد وردت الحكمة في آل إبراهيم وآيات أُخر منها: «مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» «1»

، ويظهر من الآية أنّها علم إلهي خاصّ يغاير النبوّة والمقامات الأُخر في الجملة، وهذا العلم لدني ويمنح وليس فطرياً؛ بقرينة: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، فإنّ تعلّم الكتاب ليس فطرياً.

وقد عُرّفت الحكمة بتعريفات متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العقل العملي، والحقّ أنّها العلم الذي يتلقّاه العقل العملي فيتمّ الإذعان به والتصديق، فهي ليست صفة عملية بحتة ولا علمية بحتة.

«أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ..»، الظاهر من (أن) أنّها تفسيرية، وبالتالي الظاهر من الآية تفسير الحكمة بالشكر، ممّا يعبّر عن أنّ

رأس الحكمة شكر اللَّه.

وقد أخذ قبال الشكر في القرآن الكفر: «إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، كما قابلت الروايات بين الجهل والعقل، ممّا يعني كلّ ذلك أنّ هذه الصفات ليست إدراكية محضة، وإنّما عملية، من ثمّ كان الشغل الشاغل للأنبياء هو العقل العملي الذي هو تحت اختيار الإنسان، وأمّا الإدراك والعلم فالفطري منه موجود من دون اختيار.

ثمّ لا ريب أنّ العلم الذي مُنح للقمان والذين نُعتوا بالحكمة وإن لم يندرج تحت واحد من الأقسام الحجج، إلّاأنّ علم الحكم حجّيته منطوية فيه لانطواء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 528

البرهان والدليل في أقضيتها.

ويستفاد من هذه نتيجتان مفصليتان بعد الالتفات إلي النقاط التالية:

1- إنّ لقمان ليس نبيّاً باتّفاق الجميع.

2- إنّ المستعرض لحكمة لقمان في القرآن هو اللَّه تعالي، أي لم تُعرض حكمته في القرآن علي لسان نبيّ وإنّما علي لسان الحقّ تعالي.

3- إنّ استعراض الحقّ تعالي لحكمته كاستعراضه لكلام الأنبياء.

4- بل استعراضه يمتاز عن سنن بعض الأنبياء من جهة أنّ شرائعهم منسوخة ولا يفهم أبديتها إلّابالقرينة «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «1»

، بينما الظاهر من حكمة لقمان أبديتها، بنكتة كونها كلّيات فوقانية، فهي البنية التحتية للشرائع، أو لأنّها حكمة، أو لأنّها فطرية عقلية مستوسعة، والكلّ واحد تقريباً. نعم، تمتاز سنن الأنبياء عن الحكمة بأنّها تنزل الهداية للتفاصيل ولدائرة أوسع بكثير من الحكمة، بينما الحكمة هي في دائرة الكلّيات.

5- لم يذكر حجّية حكمة لقمان من جهة عرضه علي نبيّ أو من جهة إقرار القرآن لها، وإنّما حجّيتها من جهة تضمّنها للدليل والبرهان.

6- إنّ حجّية الحكمة هي من حجّية العقل، وحجّية العقل تلازم حكم الشرع؛ لأنّه كلّ ما حكم به العقل البديهي أو النظري المبدّه حكم به الشرع، فهو لا يختلف روحاً عن التشريع

الظاهر، وإن كان تشريعاً باطناً كما يسمّي العقل بالرسول الباطن.

من ثمّ وبعد أن عرفنا أنّ طبيعة الحكمة ليست إلّاعلماً خاصّاً أُودع من قبل اللَّه تعالي في فطرة لقمان بنحو البسط، فهي لا تختلف عن العلوم الفطرية التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 529

يمتلكها البشر جميعاً من هذه الزاوية، إلّافي أنّها أوسع نطاقاً من الآخرين، فحينئذٍ أمكن أن نفهم:

أوّلًا: ما ورد في الروايات أنّ العقل رسول باطن وحجّة باطنة ومنزّل منزلة قناة الوحي، الظاهر في أنّ كلّ إنسان مرتبط بعلم اللَّه تعالي وإرادته في دائرة البديهيات أو النظريات المبدّهة.

وبهذا يكون ردّاً علي الأشاعرة والسلفيين والظاهريين قبلهم أصحاب السفسطة حيث أنكروا العقل أو حجّيته.

حيث عرفت أنّ هذا النمط من العلم موجود ويوجب اليقين والجزم، وأنّه قد استوسع للقمان، وفي الروايات إشارة إلي أنّ مصدراً من مصادر علومهم عليهم السلام هذا النمط من العلم وهو الحكمة، لكن بدائرة تفوق كلّ من أوتي الحكمة.

ثانياً: النقض علي أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان؛ حيث أنكروا وجود مصدر للحجّية والارتباط بالسماء غير النبوّة، مع أنّا لاحظنا وجود قنوات أُخري لها، وجود ضامر في كلّ إنسان وأنّها قد توسّع للبعض لا بتوسّط نبيّ، فالحال في الإمام الذي هو خليفة اللَّه تعالي في أرضه المعلّم علم الأسماء كلّها أوضح.

بل إنّ أهل سنّة الجماعة إذا ارتضوا العقل كالمعتزلة، متجاوزين المسلك الأشعري ولو في مساحة محدودة فلا بدع في سنّة اللَّه في الإمامة بعد أن كان العقل قناة إلي جنب قناة النبوّة، فيمكن للَّه تعالي أن يفتح قناة ثالثة أو يوسّع من قناة العقل والفطرة، وتكون ملزمة وحجّة.

والملفت أنّ القرآن لم يذكر جملة من الأنبياء، أو ذكر جملة أُخري منهم ولم يذكر لهم قولًا، في الوقت الذي تعرّض فيه

لجملة من المؤمنين مع عرض كلماتهم، كمؤمن آل فرعون ومؤمن آل ياسين وزوجة فرعون، بالإضافة إلي النماذج التي سبقت الإشارة إليها بمَن فيهم لقمان.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 530

وليس ذكر مثل هؤلاء إلّاللعبرة، وليس ذكر كلماتهم إلّاللاحتجاج في أنّ الحجّية الذاتية لا تنحصر بالنبوّة، إذ قد تكون من خلال علم فطري تفتّق، أو علم لدني خاصّ مُنح من قبل اللَّه تعالي، إلّاأنّ حجّية النبوّة والإمامة دائرتها أوسع بلا مقايسة مع دائرة حجّية العقل الفطري البديهي.

«أَنِ اشْكُرْ..»، وجوب الشكر في الحكمة العملية يوازي في الحكمة النظرية وجوب وجوده تعالي.

«فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ»، بدليل: «إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»، وحميد فيها إشعار إلي أنّه يشكر مَن شكره: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»، أو يعني جامع الكمالات.

«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»، في هذه الآية وعموم الآيات القرآنية يلاحظ الترابط بين البعد النظري والعملي، فالشرك أعظم غلطة وكذباً وجهلًا علي مستوي الإدراك، والظلم العظيم أعظم قبحاً في العقل العملي.

«يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ..»، المداقّة في الحساب- وكما ورد في سورة الزلزلة- ممّا لا يدركه العقل لوحده، كذا باطن الفعل في الملكوت بمقتضي الآية المبين فيها، حيث إنّ إتيان اللَّه به يوم الحساب دليل بقائه وثباته.

«فِي السَّمَوَاتِ»، إمّا كناية عن الإحاطة الإلهية، أو إشارة إلي وجود جزاء لأهل السماء مجهول الكيفية لنا، كما يبدو من آيات وروايات متعدّدة، مثل:

«سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا»، وقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حول الملائكة: «إنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً»، و.. الكاشف عن وجود ظاهرة العمل والجزاء في الملائكة.

«يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة»، بعد أن فرغ من توحيد اللَّه ومعاده ودخل في استعراض كلّيات الشريعة، وفيه دلالة علي أنّ الصلاة ثابت في كلّ شريعة، حيث كانت

فطرية، وأنّ الأمر بالمعروف فطري، وهو وإن كان في الفقه الاصطلاحي يقابل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 531

الجهاد والقصاص والديات والقضاء، إلّاأنّه بالمعني الأعمّ شامل لها، بل شامل لكلّ معروف بعد أن كان الإتيان به يستبطن الدعوة لإقامته.

والصبر يكشف عن أنّ الأُمور العملية فيها عناء ولا يتمّ إلّابالصبر.

«وَلَا تُصَعِّرْ»، فعل جارحي ناتج عن الكبر.

«مَرَحًا» الزهو، وهو الترف والفرح للمادّيات المذموم في القرآن.

«إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»، إنباء لقمان عن المحبّة الإلهية، والتي علي أساسها أمكنه العلم بالمحبوبات، وعلي أساس ذلك أمكنه النسبة.

ويعرّف أيضاً: أنّ الحكمة ليست علماً صرفاً، وإنّما هي التي تستوجب العمل.

وبه يمكن الردّ علي من يقول إنّ حكم العقل منجّز فقط، حيث ظهر أنّه يلازم حكم الشرع بل يمكن نسبته إليه تعالي.

«إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ»، فيه دلالة علي إلمامه الواسع بالخليقة، وإن كان قد ورد أنّ المراد بذلك صوت بعض أصحاب التابوت في قعر جهنّم.

النموذج القرآني الثامن: قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان: … ص: 531

وتبدأ من آية 35 إلي آية 41 من سورة النحل.

«قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ..»، إنّما كان سليمان حريصاً علي السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم عليهم السلام، ويعاضده سياق الآيات.

والإتيان بالوصف «عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل.

وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية علي توفّر غير الأنبياء أيضاً علي علم لدني وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 532

وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل

الأحاديث، منطق الطير، وغيرها..

كما ألفت القرآن إلي علم الكتاب في مواضع متعدّدة:

أ- «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا..» «1»

، وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول صلي الله عليه و آله بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضي، إلّاأن القرآن ذكر أنّ المطلوبات ثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة علي أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلّاأنّه تعالي لم يأذن لنبيّه صلي الله عليه و آله بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن؛ لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوي أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلي وفائهم وإيمانهم.

ب- «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «2»

، فالخشية ههنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: «إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع علي جبل لا يوجب تصدّعه، فمن الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن علي الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 533

«أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» «1»

، و «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» «2»

، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.

ج- وفي آيات أُخري: «آتَانِيَ الْكِتَابَ» «3»

وما أشبه، دالّة علي مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو

مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.

د- قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، الدالّ علي أنّ كلّ شي ء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.

والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «6»

، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ..» «7»

، وغيرها من السور الدالّة.

وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.

ونرجع دفّة الكلام إلي أصل القصّة وبدايتها من قوله تعالي: «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 534

أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» «1»

.والمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.

ثمّ يستفاد من الآية أُمور:

أوّلًا: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا- والذي عليه الفريقان- لم يكن نبيّاً ولا مرسلًا مع ذلك زوّد بعلم لدني غير كسبي، ممّا

يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.

ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:

1- وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة علي المجي ء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدني كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.

2- إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدي المقامات العالية التي لا ينالها إلّاأهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة.

علي أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن علي النشآت الأُخري، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلي هذه الحقيقة، كما في قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، وقد أشارت إلي ذلك سورة الواقعة في قوله تعالي: «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 535

الْمُطَهَّرُونَ» «1»

، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا..» «2»

، وكما في سورة الحشر قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «3»

، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدني الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدني إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم

الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلي أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.

كما يجب التنويه إلي أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحجج.

وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلي حقائق:

الأُولي: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «4»

، والتنزيل إشارة إلي أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «5»

، وقوله تعالي في سورة النمل: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 536

الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق علي جنس الكتاب، وتارةً يُطلق علي الكتاب العهدي للّام العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه اللَّه تعالي بأنّه مهيمن علي الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل علي الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسي فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.

والخلاصة:

إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن؛

إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.

وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه ظاهراً وباطناً وهو رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات اللَّه عليهم أجمعين)؟

النموذج القرآني التاسع: قصّة عزير … ص: 536

قوله تعالي: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَي قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَي عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّي يُحْيِي هَذِهِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 537

اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ» «1»

، علي اختلاف الروايات عند الفريقين فإنّ الذي مرّ علي قرية هل هو إرميا النبيّ أم هو عزير الذي هو أحد الحجج الإلهية؟

وعلي كلا الوجهين فإنّ الذي يهمّنا هو أنّ الكلام الإلهي المقصود في الآية كونه إسناداً مباشراً إلي اللَّه تعالي فهذا الوحي والخطاب الإلهي خوطب به الذي مرّ علي القرية.

وعلي فرض أنّ المقصود هو عزير- وهو المشهور بين الفريقين- فإنّ عزير لم يكن نبيّاً، بل هو حجّة من حجج اللَّه تعالي، ومع ذلك فقد حصل علي مقام التكليم مع اللَّه تعالي مباشرة، ممّا يعني أنّ التكليم الإلهي ليس من مختصّات مقام النبوّة فقط، بل يشترك معها مقام الحجج الإلهية كذلك.

ولسائل أن يقول: إذا كان نبيّ اللَّه إبراهيم قد سأل اللَّه تعالي بنفسه ما سأل عزير حين قال حكاية عن إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَي قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَي وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» «2»

، فكان ذكره في مقام مدح وثناء، بينما كان تساؤل عزير في

مقام ذمّ واستياء كما يفيد ظاهر الآيتين وسياقهما.

وقد ذهب المفسّرون أنّ إبراهيم كان في تساؤله طلباً واستفهاماً وغايته الاطمئنان القلبي، في حين كان تساؤل عزير استنكاراً لقدرة اللَّه تعالي، وأنّ إبراهيم إستعمل أدباً خاصّاً في طرحه لهذا التساؤل الاستفهامي، لذا فإنّ الإحياء الذي وقع لإبراهيم كان فيه كرامة في حين كان الإحياء لدي عزير واقعاً في نفسه حيث كان محلّاً لقدرة اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 538

إضاءة حول الرجعة: … ص: 538

وفي قوله تعالي: «كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

فالمحاورة التي جرت بين اللَّه تعالي وبين عزير كانت علي مستوي الروح وليس علي مستوي البدن؛ لأنّ بدن عزير لم يتمّ إنشاء إعادته أثناء المحاورة، فلا سمع بدني عندئذٍ ولا لسان ولا جوارح أُخري تُقدِره علي ذلك.

كما أنّ طبيعة النفس الإنسانية إذا وجدت في نشأة بعد نشأة أُخري فإنّها تكون في حالة غيبوبة، ولدي النفس إقبال علي النشأة الجديدة وذهول عن النشأة السابقة كما في قوله تعالي: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا* يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا* نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا» «1»

، وهذا ممّا يؤيّد ما تذهب إليه الإمامية في الرجعة، وذلك أنّه لو أُشكل بأنّ القول بالرجعة ينافي كون الدنيا دار امتحان وذلك بسبب إبطال الامتحان فيما سبق من النشآت، ممّا يعني أنّ أهل جهنّم عندما يرجعون إلي دار الدنيا قبل يوم القيامة بسبب ما ذاقوه من عذاب البرزخ سوف يتوبون وأنّ أهل الحقّ سوف يزدادون في أعمال الخير وهذا خلاف حكمة الامتحان في دار الدنيا.

والجواب: إنّ النفس عندما تقبل علي نشأة أُخري جديدة فإنّها تنسي النشأة السابقة وتعيش في نشأة جديدة.

ونفس الجواب يُجاب به

لمن أشكل من فلاسفة المسلمين من الخاصّة حيث يستشكلون في عالم الذرّ من أنّ فرض وجود روح والمخاطبة في عالم لو كان كذلك لما نُسي عالم الذرّ في عالم النشأة اللاحقة، وكما أشكل ملّا صدرا إضافة إلي ما سبق- بقوله: ولكنّا معطّلين الوجود في عالم الذرّ أي لو كانت النفس غير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 539

حادثة بحدوث البدن، بأن كانت أسبق منه في الخلق، واستدلّ بأنّا لا نتذكّر أنّا كنّا في حركة وتأثير وفعّالية، ومن ثمّ اختار وأسّس نظريته أنّ النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، ورفض كون النفس روحانية الحدوث وروحانية البقاء. والجواب عن كلّ ذلك هو أنّ انبعاث النفس إلي نشأة جديدة وانشدادها إليها ينسيها مشاهد النشأة السابقة والنشآت السابقات، كما يقصّه لنا القرآن الكريم حول نسيان النفوس نشأة البرزخ.

علماً أنّ السؤال الفطري في عالم الذرّ لا ينافي النسيان في النشأة اللاحقة.

وقوله تعالي: «فَانْظُرْ إِلَي طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَي حِمَارِكَ».

إنّ بدن عزير في الظاهر قد بُلي، أمّا الطعام والشراب لم يبلَ، وهو نوع إعجاز، والقدرة الإعجازية هنا تعلّقت بالطعام والشراب الذي لابدّ من فساده ولم يفسد وإحياء ما قد بُلي وهو عزير.

وهذا شاهد قرآني علي طول عمر الإمام الحجّة (عج)؛ فإذا أمكن إبقاء قابلية الطعام والشراب علي البقاء ففي قدرته تعالي علي إبقاء الإمام الحجّة (عج) أولي.

وقوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ»، أي: معجزة للناس، ولم يكن عزير نبيّاً ولا رسولًا.

إنّ كون الشي ء آية لعموم النوع والجنس مثل خلق الإنسان، فلا تكون الحجّية لكلّ واحد من الناس بخصوصه في خلقته، في حين لو كان الإعجاز لشخص معين من حيث هو فعل اللَّه تعالي لشخص من باب التكريم والرحمة، فإنّ هذه الكرامة هي قدرة اللَّه

تعالي تظهر في الشخص الذي هو في مقام الحجّة الإلهية.

علي أنّ الذي يُحبي بالمعجزة الإلهية لا يمكن أن يكون غير حجّة؛ لأنّ ذلك سيكون تغريراً بالمكلّفين، نعم، فيما إذا كانت المعجزة لا من باب التكريم بل من باب النقمة، فإنّ الذي تقع عليه المعجزة عندئذٍ ليس بحجّة، كما حدث لفرعون

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 540

وأمثاله من الظالمين.

كما أنّ أغلب موارد غير الحجّة لا يُعبّر عنها بالجعل، بل يُعبّر عنها بغير ذلك، نحو: (ليكون آية)، «فَالْيَوْمَ نُنَجّيِكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» «1»

، في حين موارد الحجّية أغلبها عبّر عنها القرآن الكريم «بالجعل»، كما في قوله تعالي:

«وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً» «2»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «3»

، وهذا ما يؤيّد حجّية عزير، فقوله تعالي: «وَانْظُرْ إِلَي حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ» «4»

، والآية هنا آية تكوينية.

قوله تعالي: «قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».

وهذا أحد مؤيّدات حجّية عزير؛ لأنّ العلم هنا إشارة إلي العلم اللدني لا الاكتسابي، ومن القرائن المؤيّدة أنّ عزير له مقام الحجّة، ذكر في دعاء أُمّ داود في النصف من رجب، حيث ورد ذكره في سياق الحجج كلقمان وخالد بن حنظلة وغيرهما.

قوله تعالي: «قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ»، إنّ اليهود ادّعوا أنّ العزير ابن اللَّه لا علي سبيل البنوّة، بل تشريفاً، كقوله تعالي: «قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا» «5»

، أي: اتّخاذ تشريفي لا حقيقي علي سبيل البنوّة. لذا فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله حين حاجج اليهود- كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج- وسألهم عن سبب اتّخاذهم هذه الدعوي، وكون عزير هو ابن اللَّه، فقالوا: لأنّه أحيي التوراة فأقرّهم النبيّ صلي الله عليه و آله علي أنّه أحيي التوراة ولكن لم يؤيّدهم

علي دعواهم الفاسدة أنّه ابن اللَّه.

وهذه بنفسها قرينة علي أنّ الإحياء للتوراة لا يكون إلّامن قبل وصي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 541

وفي رواية ابن عبّاس أنّ اللَّه تعالي ألقي التوراة في قلب عزير، فهو إلهام لدني، ولكنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ الإحياء هو جمع أوراق التوراة وليس هو إلقائها، إلّا أنّ الروايات متّجهة إلي الرأي الأوّل وهو إلقاء التوراة من قبل عزير.

وفي رواياتنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استنسخ التوراة وتوارثها أهل البيت عليهم السلام، وهو ما يسمّي بالجفر الذي يشمل التوراة وصحف موسي وغيرها، ففيها ما هو كائن.

والقرآن الكريم لم يُخطّئ اليهود في تعظيم عزير ومقام الحجّية لديه، بل يخطّئهم في دعواهم أنّ العزير ولد اللَّه، سبحانه عما يصفون.

كما يُلاحظ في قصّة عزير نكتة هامّة وهي أنّ إحياؤه للتوراة وحفظه للرسالة دليل علي أنّ عزير نفسه مؤهّل أن يُفاض عليه ما أفاض اللَّه تعالي علي النبيّ موسي عليه السلام، وهذا دليل علي كونه حجّة من حجج اللَّه تعالي.

النموذج القرآني العاشر: الحواريون … ص: 541

قوله تعالي: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَي الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ» «1»

، وظاهر الآية هو وحي وإحياء اللَّه لهم مباشرة لا بتوسّط النبيّ عيسي، كما ورد في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير العياشي أنّهم:

أُلهموا، وقولهم استجابة لهذا الوحي تخاطباً مع اللَّه عزّوجلّ، أي اشهد يا اللَّه.

وقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: «أنّ عدّتهم اثنا عشر، وأنّهم سمّيوا بالحواريين لأنّهم مخلصين في أنفسهم ومخلّصين لغيرهم من أوساخ الذنوب» «2»

، وكذلك عن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 542

الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ عدّتهم اثنا عشر وكان أفضلهم الوقا» «1»

، وفي احتجاج الرضا عليه السلام علي جاثليق النصاري في مجلس المأمون، قال عليه

السلام: «أنا مقرّ بنبوّة عيسي وكتابه وما بشّر به أُمّته وأقرّت به الحواريون» «2»

. أي بشارته لأُمّته بسيد الأنبياء وهو الذي أقرّت به الحواريون، فيظهر من كلامه عليه السلام أنّ الحواريين هم من الحجج المنصوبين، حيث احتجّ بإقرارهم. وفي رواية عن أبي جعفر عليه السلام: «ثمّ إنّ اللَّه أرسل عيسي بن مريم إلي بني إسرائيل خاصّة، فكانت نبوّته في بيت المقدس، وكان من بعده الحواريون اثني عشر، فلم يزل الإيمان يستسر في بقية أهله منذ رفع اللَّه عيسي عليه السلام، وأرسل اللَّه تعالي محمّداً صلي الله عليه و آله إلي الجنّ والإنس عامّة، وكان خاتم الأنبياء وكان من بعده الاثنا عشر الأوصياء عليهم السلام» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 543

القائمة الثانيةمن النماذج القرآنية … ص: 543
اشارة

وهو ما حبي اللَّه تعالي به من الأنبياء والرسل كما في القرآن الكريم من مقامات ومناصب إلهية، لا ترتبط وحيثية النبوّة، إلّاأنّ أهل سنّة الجماعة فسّروا هذه المقامات بأنّها من باب الإعجاز، إلّاأنّ القرآن الكريم وصفها بأنّها مناصب إلهية وليس هي لغرض الإعجاز فقط.

وجواب آخر لهذا التوهّم وهو أنّ المعجزة يكفي فيها وقوعها بنحو دفعي فقط فيما كانت من الأفعال، أما استمرارها فلا حاجة إليه، فالمعجزة كالبارقة الغيبية لإثبات الإعجاز، والحال أنّ هذه المقامات الموهوبة لهم مستمرّة طيلة أعمارهم الشريفة.

وجواب ثالث: إنّ هذه القدرات والمناصب لا ترتبط بحيثيات النبوّة، والشاهد علي ذلك أنّ عصمة الأنبياء لو كانت في دائرة التبليغ فقط دون مقام حكومتهم لاستلزم التدافع عقلًا بين عدم العصمة في حكومتهم والقول بأنّ نصبهم من اللَّه تعالي؛ وذلك لأنّ أمر اللَّه تعالي بطاعتهم المطلقة يتناقض مع فرض إمكان خطئهم.

فيتبين من ذلك أنّ منصب الحاكمية والحكومة والإمامة الثابت لسيد الرسل ولمن قبله في جملة من الرسل

هو مقام لهم لدني زائد علي مقام النبوّة، وهذا ممّا يدلّل علي أنّ المقامات الإلهية لا تختصّ بالنبوّة والرسالة فقط، بل تشمل الحاكمية وهي الإمامة وغيرها، كما في مقام الحجّية في دائرة محدودة كما في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 544

مريم وأُمّ موسي، ومن ثمّ فإنّ أهل سنّة الجماعة يذعنون للنبيّ صلي الله عليه و آله بالعصمة في حكومته ولكن يتحاشون من التصريح بذلك؛ خوفاً من لوازمها، ويشهد لإذعانهم الخفي بذلك أنّهم يقرّون بلزوم التوفّر علي الفضائل في من يخلف النبيّ صلي الله عليه و آله ولابدّ أن يكون صاحب فضائل يفوق غيره.

وهذه الفضائل والمناقب التي يذعنون بلزومها فيمن يخلف النبيّ إذا أمعن النظر في معانيها وحقيقتها يتّضح أنّها هي حقيقة العصمة، وأنّهم اضطرّوا إلي دعوي أنّ الخلفاء الثلاثة هم أفضل الخلق لأجل ذلك، فهذا إقرار خفي منهم بأنّ المفضول لا يقدّم علي الفاضل، وبذلك أذعنوا إلي حقيقة مهمّة وهي أنّ من يتولّي منصب الإمامة والخلافة لابدّ من عصمته، إلّاأنّهم يحاولون الاجتناب عن التصريح بذلك.

إذن فهناك حبوات ملكوتية تُعطي للأنبياء ليس علي سبيل الإعجاز فقط، بل هي عناوين ومناصب إلهية أُخري غير النبوّة.

ومعني ذلك أنّ هذه المقامات لدي الأنبياء لا بما هم أنبياء، بل بما هم أولياء، فهذه الجهات مجعولة من قبل اللَّه تعالي بما هم حجج أولياء؛ لغرض الهداية الإيصالية، فالقرآن نبّه علي هذه المقامات بما هم حكام أولياء لا بما هم رسل أنبياء.

النموذج الأول لهذه القائمة: آدم عليه السلام … ص: 544

قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 545

تَعْلَمُونَ» «1»

، والآية مطلقة في الجعل الكلّي للخلافة والإمامة، والخلافة

هي ولاية مطلقة، والنيابة هي ولاية متوسّطة، والوكالة هي ولاية ضعيفة.

والقرآن الكريم لا يستعرض بصراحة نبوّة آدم بل صرّح بخلافته، لذا أنكر بعض المنحرفين نبوّة آدم لعدم التصريح بذلك في الآيات.

قوله تعالي: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ»، فاعتراضهم من جهة ولاية آدم وليس في تبليغه كنبيّ.

قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ»، وتعليم الأسماء ليس فيه بعثٌ لآدم في مقام النبوّة، فهي ليست شريعة ولا منهاجاً، بل حقائق مقامات تكوينية مرتبطة بأصل الديانة والولاية الإلهية.

والآية بينت أنّ ولاية آدم ليست مختصّة في الأرض، بل هي شاملة علي الملائكة والإنس والجنّ، فالكلّ تُفترض عليه طاعة آدم.

وفي قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «2»

، والاصطفاء لا يختصّ بالنبوّة، بل يعمّ سائر المقامات والفضائل والكمالات اللدنية الوهبية، هذا الاصطفاء كالجنس العامّ للمقامات الغيبية؛ وذلك لدخول مريم عليها السلام في آل عمران مع كونها غير نبيّ بل كونها حجّة، فالاصطفاء إذن هو اجتباء للطهارة والعصمة وللمقام من المقامات الغيبية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 546

النموذج الثاني: إبراهيم عليه السلام … ص: 546

قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، إنّ أصل الإمامة ليس هو مجرّد منصب اعتباري، بل هو منصب تكويني غيبي، وجعل إبراهيم إماماً إحدي درجاته النازلة هو الإدارة الظاهرة المعلنة أو الخفية لشؤون البشر، وتزويده بالعلم اللدني وجعله إماماً هو مقام غيبي يغاير مقام النبوّة.

وإذا كانت الهداية الإراءية أي بقاء الشرائع والتي هي من مهام الأنبياء غير منقطعة في أي حقبة من حقبات البشر، فإنّ الهداية الإيصالية التي هي من مهام الإمامة غير

منقطعة كذلك، ومعني ذلك أنّ الإمامة لا يمكن أن تنقطع أبداً، فمنصب الإمامة يؤكّده القرآن كسنّة إلهية، وليس هو بدعاً في العقيدة بل عقيدة قرآنية راسخة.

قوله تعالي: «تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ» «2»

، ومعني الإيتاء هنا هو الإيتاء بالعلوم اللدنية والمقامات الإلهية التي ليست زائدة علي شؤون النبوّة وحيثياتها.

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» «3»

، فإيتاء الكتاب والحكمة يغاير النبوّة، بشهادة سياق التعداد لبيان تنوّع النعم والمنن علي بني إسرائيل، فكيف يُدّعي أنّ إيتاء الكتاب والحكمة هي النبوّة؟ ويعلم من الآية الكريمة أنّ الذي عنده علم الكتاب ليس بالضرورة أن يكون نبيّاً كما هو الحال في آصف بن برخيا صاحب سليمان كما تقدّم. بل القرآن فيه موارد متعدّدة تدلّل علي أنّ الإيتاء غير النبوّة.

قوله تعالي: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 547

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «1»

، فالكتاب والحكمة وإيتاء الملك العظيم ليس يتعلّق بحيثيات النبوّة، والملك سنخ ملكوتي لدني وليس سنخ اعتباري، ومن هنا يُفسّر الملك العظيم كما في الروايات بأنّه الإمامة.

لأنّ الملك مصحوب بالقدرة نظير عنوان الخلافة، كما في آدم زوّد بالأسماء ثمّ سجدت له الملائكة، فقدرته نابعة من الأسماء التي علّمها اللَّه تعالي إيّاه.

ودُعّم هذا المعني بنفس الآية في قوله تعالي: «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»، وهذا هو الملك العظيم الذي هو القدرة وطاعة وخضوع جميع الملائكة في السموات والأرضين وائتمارهم للخليفة فضلًا عمّن هو تحت سيطرة الملائكة.

قوله تعالي: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «2»

، يُعبّر عن الإمامة بتعابير مختلفة، فمرّة يُعبّر عنها بالملك، وأُخري يُعبّر عنها بالخليفة والإمامة، ورابعاً يُعبّر عنها بالكلمة، وإلي غير ذلك.

وذهب بعض

أهل سنّة الخلافة بأنّ الكلمة هي كلمة التوحيد، أي مجرّد قول لا إله إلّااللَّه علي اللسان، وهذا غير موافق لظاهر الآية؛ لأنّ إطلاق الكلمة قرآنياً لا يقتصر علي الكلمة لفظياً، فقد أطلق علي عيسي بكلمة اللَّه، فالحجج الإلهية هم كلمات اللَّه تعالي، والكتاب التكويني هو الذي تجمع فيه الكلمات جميعاً، أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو كتاب اعتباري جُمعت فيه الكلمات الاعتبارية.

وقوله تعالي: «يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ» «3»

أي يقيم الحقّ بكلماته، بيان للقائمين بالهداية الإرائية والإيصالية، والكلمات هم الحجج الذين يتولّون مهام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 548

الهداية الإرائية، ومن ثمّ مهام الهداية الإيصالية كذلك.

وفي قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

وإراءة الملكوت مقام زائد علي مقام النبوّة، ومن ثمّ امتاز به إبراهيم علي جملة من بقية الأنبياء، والملكوت هو الجانب الأمري والسلطة علي كلّ مخلوق والذي هو بيده تعالي.

النموذج الثالث: إسحاق ويعقوب عليهما السلام … ص: 548

قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «2»

، فالجعل هنا كالتعريف لبيان حدود المعني للإمامة، إذ هناك منصب آخر غير النبوّة وهو منصب الإمامة كما ورد في القرآن الكريم، والهداية المعبّر عنها بقوله تعالي:

«يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» هي هداية أمرية وهي هداية ملكوتية في مقابل الهداية الملكية، وقد تقدّم شطر من بيان معني الأمر من الكلام في الفصل السابق في مباحث ليلة القدر والفصول السابقة أيضاً، وأنّ الأمر هو الروح الأمري وهو روح القدس الذي يتنزّل ليلة القدر وينزل الملائكة معه.

وقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ..»، ممّا يدلّ علي أنّ الإمامة هي وحي تسديدي وليس من الوحي النبوي.

وقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، ولم يكن التعبير: (وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات) والفرق بين التعبيرين أنّ في التعبير الأوّل متعلّق الوحي ذات فعل الخير

تكوينياً، وأمّا في التعبير الثاني متعلّق الوحي ليس هو ذات الفعل وإنّما هو الأمر التشريعي والطلب الإنشائي للفعل، وهو دليل علي أنّ الأئمّة عليهم السلام لديهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 549

العصمة الفعلية، كما أنّ منصب الإمام ليس هو مجرّد منصب تشريعي اعتباري، بل منصب تكويني لدني.

فهناك عصمة علمية وعصمة عملية لقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، ممّا يدلّ علي أنّ أفعالهم حجّة إلهية، فضلًا عن أقوالهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

وقوله تعالي: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» «1»

، والآية تدلّ علي وجود الهداية الإيصالية في الإمامة لقوله تعالي: «وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»، أي هناك حيثية إيصالية في هدايتهم لبيان الغاية والعاقبة.

وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «2»

، وهنا تبين أنّ الإمامة سنخ غيبي غير سنخ النبوّة، فالأمر الإلهي في القرآن هو جانب الملكوت. والإيقان هو التسليم والمعرفة التامّة، فالإمام لديه اليقين التامّ، أي أنّ الملكوت أمامه دائماً، والروح الأمري وهو غيب عن عالم السماوات وعن عالم الملائكة، لذا فهو يهدي بالهداية الإيصالية.

وقوله تعالي: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «3»

، إنّ التعبير «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» دليل علي أنّ العلم هذا ليس علماً كسبياً، بل هو علم لدني أوتي به يعقوب غير مرتبط بالنبوّة، هو من غير قناة النبوّة، بل هو من باب الولاية الاصطفائية.

قوله تعالي: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 550

شَيْ ءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» «1»

، وهذا هو العلم الذي عُلّم به يعقوب، غير مرتبط بالنبوّة، بل

مرتبط بتدبير الأُمور علي نحو التفصيل في الشؤون المعاشية المرتبط بالولاية، والتعبير لما علّمناه هو تأكيد آخر علي كونه علماً لدنياً غير كسبي.

النموذج الرابع: يوسف عليه السلام … ص: 550

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» «2»

، إيتاء علم تأويل الأحاديث ليوسف ليس كسبياً بل هو لدني، وليس هو من شؤون النبوّة؛ إذ ليس مرتبطاً بالتشريع أو المسائل الاعتقادية. فما المقصود بتأويل الأحاديث؟

إنّ تأويل الأحاديث ليس هو تأويل الرؤيا وحده، بل هو أحد مهامه إذ تأويل الأحاديث أعمّ من ذلك، حيث إنّ كلّ نشأة تأويل للنشأة السابقة، فعالم الأصلاب هو تأويل لعالم الذرّ وعالم الأرحام تأويل لعالم الأصلاب وهكذا، إذ التأويل من الأوْل أي الرجوع، فكلّ نشأة راجعة إلي النشأة السابقة، فالتأويل هو منتهي الشي ء والمآل له.

ونبيّ اللَّه يوسف عليه السلام ليس لديه تأويل الرؤيا فحسب، بل لديه علم معرفة مآلات أحداث الدنيا أي عواقب تلك الأحداث الدنيوية.

هذا علي مستوي نطاق نبوّة يوسف عليه السلام، فكيف بنبيّ اللَّه الخاتم صلي الله عليه و آله وأوصيائه المعصومين؟ فقد حُبوا أكثر وأعظم مما حُبي به يوسف عليه السلام، وذلك لقوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 551

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، والضمير في تأويله عائد إلي كلّ الكتاب، وتأويل كلّ الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا رطب ولا يابس ولا غائبة في السماء والأرض إلّاأحصاها، ومعلوم أنّ الراسخين في العلم في هذه الأُمّة هم صلوات اللَّه عليهم أجمعين؛ وذلك بشهادة آية التطهير، وأنّ أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأُمّة، وقد قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

.وأما

قوله تعالي: «هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» «3»

، فالظاهر أنّ ذلك إشارة إلي ما أنعم اللَّه عليه من معرفة تأويل الأحاديث، ومنه تفسير الرؤيا الذي عرف به مآل مستقبل أهله وإخوته.

وهذا نوع من أنواع العلم اللدني الذي حُبي به يوسف عليه السلام، ولا ربط له بالرسالة بل بعلوم الولاية. وتأويل الأحاديث أعمّ من تعبير الرؤيا إلّاأنّه أخصّ من تأويل القرآن؛ لأنّ تأويل القرآن تأويل لكلّ النشأت السابقة واللاحقة للنشآت الأُخروية، فالذي يحيط بعلم تأويل القرآن هو أعلم ومهيمن علي علم من يحيط بتأويل الأحاديث، ومن هذا القبيل قوله تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «4»

، إشارة إلي أنّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 552

الاستنباط بالمعني القرآني لا بمعني الاجتهاد الظنّي؛ إذ هو لا يورث العلم ولا يوقي عن اتّباع الشيطان في تدبير النظام الاجتماعي السياسي؛ إذ يتوقّف ذلك علاوة علي العلم المحيط بالتشريعات الإلهية، علي العلم اللدني المحيط بالموضوعات في الشؤون المختلفة وعلم الأحداث الذي يزوّد به وليّ الأمر في ليلة القدر، حيث يتنزّل عليه تفاصيل كلّ الأحداث المستقبلية صغيرها وكبيرها وقد تقدّم شطر وافر من الكلام في الفصل السابع من مباحث ليلة القدر، وقرينة علي إرادة هذا المفاد من الآية هو التعبير ب (لَعَلِمَه) الظاهر في حقيقة العلم لا الظنّ، لا سيما قد وصف هذا العلم بأنّه يوقي بنحو دائم بات عن اتّباع الشيطان، وهو أشرف من علم تأويل الأحاديث.

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لَايَعْلَمُونَ* وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ» «1»

، إنّ الآية تبيّن أنّ التمكين بيد اللَّه تعالي فزمام الأُمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلّ دقائق الحياة- كما سيأتي بيانه مفصّلًا- موكول أمره إلي اللَّه تعالي.

وتمكين يوسف في الأرض مقاماً غير النبوّة، بل هو مقام حاكمية من قبل اللَّه تعالي، وهي إحدي الحبوات التي حُبي بها يوسف عليه السلام.

وإنّ ما عمله أُخوة يوسف عليه السلام هو بنفسه يصبّ في الغرض الإلهي وإن كان معصية من قبلهم، وهذه سنّة لا تتخلّف من أنّ كلّ ما يعمله الظالمون والمفسدون فإنّه غير غالب لتدبير اللَّه تعالي، بل اللَّه تعالي غالب علي أمره قد جعل اللَّه لكلّ شي ء قدراً «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «2»

فإنّه أخيراً سيصبّ في الغرض الإلهي، ولا يعني هذا حسن عمل السوء، فالقبيح يبقي قبيحاً، وعمل السوء يحيق بصاحبه: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّي ءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «3»

، ولا يضرّ اللَّه شيئاً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 553

وهو ما تؤكّده الآية التالية- نظير عمل إبليس، فإنّ دخول الشرور في منظومة الخلقة الإلهية لا يخرج الأمر عن تدبيره تعالي، ولا يعيق قيد شعرة الخطّة الإدارية التكوينية عن الوصول إلي الغايات الكمالية.

قوله تعالي: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ» وهذا تأكيد علي أنّ كلّ مجريات العالم بدقائقه وكلّياته مرتبطة بإرادته تعالي، وهذا خلاف ما ادّعته اليهود بأنّ يد اللَّه مغلولة فأجابهم اللَّه تعالي بقوله: «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ»، فالإرادات التكوينية للمخلوقين لا يمكن أن تتخطّي إرادة اللَّه تعالي، لا بمعني إلجائهم بنحو يفقدهم الاختيار إلي الجبر، بل بمعني إنّ ما يفعلوه من أفعال الشرّ يستثمره الباري تعالي بلطيف قضاءه وقدره ومكنون حكمته في تحقيق الغايات الكمالية الإلهية، ففعلهم شرّ، إلّاأنّ فعله تعالي في

تدبير القضاء والقدر لاستثمار ذلك خير تامّ بالغ، فكيف نتصوّر بعد ذلك أنّ اللَّه تعالي قد رفع اليد عن الأُمور الاجتماعية وأهمّها قيادة المجتمع الذي يمثّله تعيين الإمام الخليفة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله.

قوله تعالي: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ»، أي: لا يعلمون أنّ كلّ حدث يجري ويصبّ هو في الإرادة الإلهية.

وبالتدبّر في سيرة حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله في القرآن، وتصرّف وإرادات اللَّه تعالي في حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله المستعرضة في القرآن واضحة جلية، فهل يعقل انقطاع تصرّف الإرادات الإلهية في تدبير النظام البشري بعد وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله لعدم تعيين الخليفة الذي تتنزّل عليه المشيئة الإلهية والإمام من قبل اللَّه تعالي؟

فالقول بعدم تعيين الإمام من قبل اللَّه تعالي تعطيل محض لإرادات اللَّه تعالي وحكمه وحاكميته في تدبير النظام البشري.

قوله تعالي: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ»، فإيتاء العلم والحكمة جزاء لمن وصل إلي مقام الإحسان؛ لقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 554

نَجْزِي الُمحْسِنِينَ»، ولا علاقة لهذا الإيتاء بالنبوّة.

فالعلم اللدني هنا لمقام المحسنين وليس للنبوّة، وهو ما يتوفّر لدي الأئمّة عليهم السلام الذين آتاهم اللَّه تعالي علماً لدنياً بسبب مقامات عدّة ليس لها علاقة بمقام الرسالة، بل لكونهم حججاً مصطفين.

قوله تعالي: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ»، فصرف السوء والفحشاء ليس لكونه نبيّاً فقط، بل لكونه من عباده المخلَصين، وقد عبّر تعالي بقوله: «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ»، أي نمنع عنه السوء والفحشاء، ولم يقل ونصرفه عن السوء والفحشاء، أي نبعد السوء عن أن يقترب إليه، وليس إبعاد يوسف عن أن يقترب إلي السوء والفحشاء؛ إذ لم يكن من قبل

النبيّ يوسف إقبال علي الفحشاء والسوء كي يُبعد عنه، بل الفحشاء في فعل زليخا حيث أرادت أن تقبل علي يوسف فصُرفت عنه، فهذه دلالة علي عصمة يوسف ذاتاً بل وعصمته عن أن يُخترق حريم عصمته من البيئة المعاشة.

وبذلك يظهر دلالة قوله تعالي الذي هو بنفس التعبير والتركيب: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

علي عصمتهم الذاتية وعلي عصمتهم عن أن يخترق الرجس حريم عصمتهم، كما يشير إلي ذلك أيضاً ما في زيارة سيد الشهداء عليه السلام: «ولم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها»، وهذا دليل علي أنّ يوسف عليه السلام لم يهمّ بها بل هي همّت به.

لذا فإنّ لدي المعصوم شعاع من العصمة يمنع السوء عن المعصوم فضلًا عن عصمته الذاتية. وفي سورة الدهر أكّدت أنّ أهل البيت عليهم السلام من عباد اللَّه المخلصين حيث أخلصوا مع اللَّه تعالي فانتجبهم واجتباهم، وحيث جعلوا فوق مقام الأبرار

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 555

فهم يسقون الأبرار من عين الكافور فيمزجون شرابهم منه.

قوله تعالي: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَي خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الُمحْسِنِينَ» «1»

.وهذه المرتبة حيثية أُخري غير النبوّة يمكن أن تجعل النبيّ حاكماً في الأرض، والشرائط الشرعية في كونه حاكماً أن يكون حفيظاً عليماً، وهي بعينها شرائط الإمامة، وهي كونه تتوفّر لديه العصمة العلمية (عليم)، فضلًا عن العملية (حفيظ)، بخلاف من قال بتقديم المفضول علي الفاضل كما ذهبت إليه المعتزلة.

وفي الآية مفهوم من أقوي المفاهيم، وهو مفهوم التعليل حيث علّلت العلم علّة لمنصب

الحاكمية والجاهل ليس له ذلك، وهذا ما تلتزم به الإمامية من كون الإمام والخليفة لابدّ أن تتوفّر لديه العصمة العلمية فضلًا عن العملية، فيكون عليماً بنظم التدبير في النظام الحاكم في مجالاته المختلفة، ولا يجهل أوفق البرامج الموصلة إلي المثل العليا في الكمال في الأنظمة الاجتماعية في الميادين المختلفة، ويكون حافظ لهذه الأمانة في الحاكمية فلا يميل به الهوي ولا تستولي عليه العصبية ولا يغلبه التجبّر ولا يقعده الجبن، إلي غير ذلك من الصفاة المانعة من حفظ الأمانة.

قوله تعالي: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» «2»

وهي إشارة إلي أنّ الأُمور لدي الأنبياء فضلًا عمّن دونهم كلّياتها وجزئياتها تجري وفق التدبير الإلهي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 556

وضمن مسارات الإرادة الإلهية، فأخذ يوسف أخاه في دين الملك لم يكن بتدبير يوسف منعزلًا عن الإرادة الإلهية والمشيئة الربّانية.

قوله تعالي: «إِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

، فخاصّية قميص يوسف أنّه إذا أُلقي علي أبيه يرتدّ بصيراً، فكيف ببدن يوسف عليه السلام، لذا فإنّ اللَّه تعالي يكرّم أولياءه بخاصّيات تكوينية.

قوله تعالي: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» «2»

وهذا أيضاً تأكيد علي أنّ ما أُوتي من مقامات لا ترتبط بمقام النبوّة والرسالة بل بمقام الولاية.

النموذج الخامس: موسي عليه السلام … ص: 556

قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَاْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّافَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ

عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النّاظِرِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَاشِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَي وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «3»

.الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 557

إنّ البقرة هنا لها خاصّية إحياء الموتي علي يد موسي عليه السلام فكيف بالنبيّ أو الوصيّ عليهما السلام، وليس في ذلك غلوّ أو خلاف الحقّ، بل القرآن ينصّ علي خصائص تكوينية لأجسام الأنبياء والأوصياء.

ثمّ إنّ الآية وهي في منازعة قضائية جنائية تؤكّد أمراً مهمّاً وهو متابعة اللَّه تعالي للمجتمع الإسرائيلي الذي أسّسه موسي عليه السلام في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا يعني أنّ اللَّه تعالي يباشر حكومة هذا المجتمع عن طريق موسي في السياسات الكلّية والجزئية ممّا يؤكّد أنّ اللَّه تعالي يمارس الحاكمية بشكل تفصيلي بكلّ دقائق الأُمور وكلّياتها.

إنّ التوجّه السائد لدي أهل سنّة الجماعة والخلافة- وللأسف- أنّهم يُبعدون الذات المقدّسة عن ساحة الأحداث، وهو لازم قولهم إنّ خلافة النبيّ صلي الله عليه و آله أمر دنيوي لا دخل للحاكمية والولاية الإلهية التفصيلية فيه، أي تعطيل الدور الإلهي وإزوائه، والإرادة الإلهية التفصيلية والمشيئة التنفيذية لا تتنزّل علي أحد إلّاعلي نبيّ أو وصي معصوم، وهو ما دفع أهل سنّة الجماعة- علي ما يبدو- إلي عدم الالتزام بهذه الحقيقة القرآنية العظيمة وهي حاكمية اللَّه وسلطته التنفيذية في تفاصيل تدبير النظام

البشري السياسي والاجتماعي.

قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1»

، والآية صريحة في عقيدة الإمامية من كون الحكم بالشريعة في النظام الاجتماعي السياسي هو للأنبياء، وهو منصب يختصّون به، والمرتبة الثانية أنّ الحكم للربّانيين وهم الأولياء المصطفون، والرتبة الثالثة الحكم للأحبار أي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 558

العلماء وهذه الطولية في جعل الحكم هي لمغايرة الربّانيين للأحبار.

والربّاني هو المنسوب إلي الربّ وهي صيغة مبالغة وهذه الصيغة تدلّ علي شدّة القرب للَّه تعالي فهو لابدّ أن يكون معصوماً، والربانية هي مرتبة اصطفائية وهم الأئمّة عليهم السلام وقرينة أُخري علي المراد بهم الأوصياء بقوله تعالي: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ»، فالذي يكون شهيداً علي الكتاب كلّه لابدّ أن تكون إحاطته بالكتاب لدنية أي نظير تعبير بمن عنده علم الكتاب، كما تدلّ هذه القرينة علي أنّ الربّاني لا تخلو منه الأرض، لأنّه الحافظ لإقامة كتاب اللَّه في النظام البشري فقد استحفظ وكان علي ذلك شهيداً، فلا يستقلّ الأحبار في الحكم النيابي عن الربّاني وعن هيمنة وإشراف الوصي المعصوم في كلّ الأزمان.

قوله تعالي: «إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا» «1»

، وجعل الملك في بني إسرائيل من قبل اللَّه تعالي دليل علي كونه جعلًا إلهياً وعهداً منه، وأنّ سنخ جعل الملك كما هو في جعل النبوّة، كما في قصّة طالوت حيث جعله اللَّه ملكاً بغضّ النظر عن اختيار الناس له، والملك هنا ملك تصرّف فهو لا يقتصر علي الاعتبار التشريعي، بل الملك هنا أعمّ كما في قوله تعالي في آل إبراهيم: «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «2»

، فهو منصب إلهي غير منصب النبوّة؛ إذ

إنّ موسي عليه السلام جعل الملك نعمة وحبوة، وهي غير مختصّة ببني إسرائيل فتعمّ كلّ الأمم، والأُمّة الإسلامية هي أولي في جعل الملك لديها وهي الإمامة، ففي آيات عدّة عُرّف حدّ الإمامة بالملك وولاية التصرّف.

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا» «3»

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 559

فمع كون النقباء غير أنبياء إلّاأنّ التعبير ورد (وبعثنا)، فبعث النقباء كبعث الأنبياء عهد إلهي ملكوتي تكويني، وقد ورد التعبير بعينه إيضاً في طالوت حيث قال تعالي علي لسان نبيّ بني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «1»

كذلك.

والنقابة هي معرفة أحوال القوم وخفاياهم، فالنقيب من نقّب عن أحوال قومه، ولذا فقد ورد في صفاة الإمام معرفته لأحوال وأسرار أُمّته، حيث ورد في الروايات إنّ عليه السلام له عمود نور يري بواسطته أعمال الناس، وهو مفاد قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

، فالمؤمنون ههنا خصوص الأئمةّ الشهداء علي أعمال البشر يرون الأعمال حين صدورها من الإنسان، وهو معني الشهادة والرؤية لها في سياق رؤية اللَّه تعالي ومن بعده رسوله صلي الله عليه و آله ومن بعده المؤمنون المعني بهم ما ذكرهم تعالي في آخر سورة الحجّ: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «3»

، فهم من نسل إبراهيم الخليل من قريش، فالإمام نقيب بما فيه من التأهيل لمعرفة أحوال البشر.

كما أنّ العدد اثني عشر له دلالة علي الإمامة الاثني عشر، فالعدد هذا ليس اعتباطي بل سنّة إلهية

في الأُمم؛ إذ ورد أنّ أوصياء كلّ نبيّ اثنا عشر، كما ورد أنّه يجري في هذه الأُمّة ما جري في بني إسرائيل، وورد في الحديث النبويّ «4» المتواتر: «أنّ خلفائي اثني عشر كلّهم من قريش من هذا البطن من بني هاشم».

قوله تعالي: «وَوَاعَدْنَا مُوسَي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 560

لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَي لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» «1»

، تدلّل الآية علي أنّ الشريعة الموسوية فيها حاكمية وإمامة إلهية؛ لأنّ موسي عليه السلام استخلف هارون عليه السلام في قومه حاكماً فترة غيابه والتي وهي أربعون ليلة، فكيف لا يستخلف النبيّ عليه السلام إماماً وخليفة بعد وفاته؟ مع أنّ أهل سنّة الجماعة أقرّوا أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله استخلف في حياته علي المدينة المنوّرة عند خروجه في الغزوات.

قوله تعالي: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَي أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» «2»

، والأُمّة هي المجموعة ذات الهدف الواحد، و (من) تبعيضية أي بعض قوم موسي يقومون بالهداية ويقيمون العدل بالحقّ، ودوام الصفة وإطلاقها يدلّ علي العصمة العلمية والعملية؛ إذ الصفة أوتي بها بصيغة جملتين من الفعل المضارع للدلالة علي الاستمرار والشمولية، والتعبير في الجملة الأُولي يدلّ علي دوام الفيض العلمي اللدني لديهم، والتعبير في الجملة الثانية يدلّ علي دوام البسط والتمكين الإلهي لهم لأسباب إقامة العدل، وهم أئمّة وذلك بهديهم وإمامتهم للناس، فكيف في أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله، إذن لا يكون هناك أُمّة منهم أئمّة هدي؟

قوله تعالي: «وَاخْتَارَ مُوسَي قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا» «3»

، فاختيار موسي للميقات هو اختياره لهم إلي مقام تشريفي، إلّاأنّ اللَّه تعالي لم يرتضِ أهلية هؤلاء؛ لأنّ فيهم السفهاء وهم جهلاء ظالمون،

فلا يكونوا مؤهّلين لسماع الوحي والتكليم الإلهي، لقوله تعالي لإبراهيم في إمامة ذرّيته: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»، وكما أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله كلّف أبا بكر تبليغ سورة براءة، إلّاأنّ الوحي استدرك وأمره أن لا يبلّغ إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 561

أنت أو رجل منك، وهذه سنّة إلهية ثابتة.

فالاختيار والاصطفاء إذن من اللَّه تعالي، فلو كان مع موسي غير سفهاء لكانوا مؤهّلين لسماع الوحي مع أنّهم غير أنبياء، فما تعتقده الإمامية من أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام إستمع الوحي ورآه لقوله صلي الله عليه و آله: «يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري» «1»

، سنّة قرآنية أصيلة، ومن ثمّ أمر اللَّه نبيّه في آية المباهلة انتداب عليّ لشهوده الوحي ومسؤوليته لهذه الشهادة هو وزوجه البتول وشبليه سيدا شباب أهل الجنّة، حيث كانوا أصحاب الكساء يشاهدون الوحي عياناً، فحمّلهم اللَّه تعالي مسؤولية الشهادة في المباهلة كشركاء تابعين للنبيّ صلي الله عليه و آله في الحجّة الإلهية كما في قوله تعالي: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو الوحي النازل، «وَيَتْلُوهُ» أي يتبعه وتابع له، «شَاهِدٌ» أي يشهد الوحي عياناً ويشهد البينة من الربّ، «مِنْهُ» أي من أهله وبمنزلة نفسه كما في «أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ».

وقد يُعترض بأنّ كلّ مؤمن يشهد بوحدانية اللَّه وبرسالة النبيّ صلي الله عليه و آله، فلماذا خصوص الأمر الإلهي في آية المباهلة بأهل البيت عليهم السلام بأن يشهدوا للنبيّ والرسالة دون غيرهم؟ أليس قد شهد خزيمة بن ثابت للنبيّ صلي الله عليه و آله بما لم يره عندما نازع الأعرابي النبيّ صلي الله عليه و آله في عين مال فأمضي النبيّ شهادته عن بينة بمنزلة شهادة رجلين؟ وذلك ليقين خزيمة

بصدق النبيّ صلي الله عليه و آله.

وللإجابة عن هذا الاستفسار: أنّ شهادة المؤمن حيث كانت تستند إلي إدراك المعجزة الإلهية علي نبوّة النبيّ صلي الله عليه و آله فهي إخبار قطعي لا ظنّي، بل هي إخبار عن عيان؛ لأنّ المعجزة كما هو الصحيح عندنا عيان للقدرة للغيبة يتكشّف شي ء من ستار الغيب، فإدراك المعجزة عيان لبروز القدرة الغيبية الإلهية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 562

لا كما عرفها المتكلّمون من أنّها برهان فكري في الاستنتاج الذهني ومن نمط العلم الحصولي، بل هي علم حضوري في الأساس، وإن كانت معجزة علمية أو تكوينية تستند إلي الحسّ في مقدّماتها وإلي المعاني الذهنية، إلّاأنّ أبصار الإعجاز المترتّب عليها هو عيان وجداني للقدرة الخارقة الغيبية، ومن ثمّ تكون مسؤولية المؤمن الإقرار والشهادة والإخبار القطعي بما أدركه عياناً، إلّاأنّ هذا الإدراك لمّا كان محدوداً وبنحو إجمالي كانت المسؤولية الملقاة علي كاهل المؤمن هي متناسبة بقدر ذلك من افتراض الإيمان عليه والتسليم والطاعة، بل والقيام في الواجبات في الشريعة.

وهذا بخلاف من يحمل أن يكون قوله وشهادته سنداً بنفسه يقينياً قطعياً لحجّية نفس الرسالة والنبوّة ليضاهي قوله وشهادته المعجزة في إثبات الرسالة، فإنّ مثل ذلك الشخص والأشخاص لا ريب ولابدّ أنّهم يتمتّعون بعيان حضوري لكلّ تفاصيل الوحي، ويشاكلون ويشاركون النبيّ صلي الله عليه و آله مع تبعيتهم له في العلم والعيان لما ينزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ خُصّوا بهذه المسؤولية دون غيرهم، وكانت لهم أهلية ذلك دون بقية كبار الصحابة ودون زوجات النبيّ، كما تقدّم في اختصاص عليّ بتبليغ سورة براءة دون أبي بكر؛ بأمر اللَّه النازل: لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك، فكانوا علي درجة من الصفات

توجب اليقين من شهادتهم علي حذو اليقين الحاصل من المعجزة.

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا» «1»

، فالوزارة للنبوّة جعل إلهي، لذا فقوله صلي الله عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي»، بمعني الخلافة والوزارة والإمامة، وكون هارون وزيراً غير كونه نبيّاً.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 563

النموذج السادس: سليمان وداود عليهما السلام … ص: 563

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلِسُلَيَمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ» «1»

، فهذه المقامات المذكورة والنعم الموصوفة هي غير مقامات النبوّة، بل هي مقامات إمامة وولاية.

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيَمانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» «2»

، وهي كسابقتها من الآيات إذ الأعطيات التي استوجبت الحمد من قبل داود وسليمان لمكان الحبوة التي حُظيا بها من اللَّه تعالي، لا لمقام النبوّة منهما، بل لحجّيتهما وإمامتهما.

قوله تعالي: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3»

، فقد وصف اللَّه تعالي داود أنّه عبد في هذه الآية والمقام ولم يذكر وصف النبوّة، ممّا يدلّل- بمقتضي أنّ الوصف مشعر بالعلّية- علي أنّ هذه الحبوات إنّما أُعطيت له بمقتضي درجة العبودية التي وصل إليها، والتي هي معني الولاية كما في الخضر حيث قال تعالي «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «4».

فبيّنت الآية أنّ العلم اللدني والرحمة الخاصّة التي هي من مقامات الولاية وأُعطيت للخضر استحقّها بالعبودية بدرجة خاصّة، فهذه المقامات أُعطيت لداود بسبب

مقاماته في العبودية، وهي الولاية؛ لأنّ العبودية هي الجانب الذي يلي من العبد تجاه مولاه، لا بما لداود من مقام النبوّة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 564

فالآيات المتقدّمة تشير إلي حقيقة مهمّة وهي أنّ الحبوات التي حصل عليها الأنبياء لا لمجرّد كونهم أنبياء بل لكونهم حججاً أولياء وأئمّة، فالنبوّة وإن كانت تحتاج إلي المعجزة، إلّاأنّ المعجزة لا ضرورة لدوامها واستمرارها بنحو ممتدّ، بل يكفي وقوعها وحدوثها لإيجابها واستلزامها الثبات علي نحو الدوام، أي أنّ وجودها وإن كان دفعياً إلّاأنّ حجّيتها ووصف الحجّية لها مستمرّ؛ إذ هي في حدود تصديق نبوّة النبيّ.

فإذا تمّ الغرض انتفت الضرورة لاستمرار وجودها، وإن كان بعض المعاجز كالقرآن الكريم- معاجز مستمرّة الوجود، بينما هذه الحبوات والمقامات ثابتة لحجج اللَّه تعالي وأوليائه، وهو ما حدث وما يحدث لأئمّة آل البيت عليهم السلام من الحظوة بالمقامات الإلهية التي حازوا عليها وأكرمهم اللَّه تعالي بحبواته، فلا مجال إذن لإنكار هذه الحقيقة المعرفية القرآنية تحت ذريعة وغطاء التفويض والغلوّ كما توهّم البعض.

فإيتاء الملك لداود هي الإمامة. ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض، إشارة إلي التدبير الاجتماعي الذي يديره داود في بني إسرائيل، فإيتاء الملك يختلف عن إيتاء النبوّة، فهو منصب خاصّ من قبل اللَّه تعالي، فالإمامة أهلية خاصّة غير أهلية النبوّة.

قوله تعالي: «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» «1»

، فتوريث الأرض للعباد الصالحين لا لكونهم أنبياء، بل لكونهم عباداً صالحين، وهذا وعد إلهي.

إنّ أحد حدود الإمامة هي العبودية بدرجة فائقة للَّه تعالي وهي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه تعالي، وقد روي هارون بن الفضل، قال: «رأيت أبا الحسن عليّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 565

بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر عليه السلام فقال: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون،

مضي أبو جعفر عليه السلام. فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنّه تداخلني ذلّة للَّه لم أكن أعرفها» «1».

وفي رواية أُخري أنّه عليه السلام سُئل عن كيفية علمه بوفاة أبيه قال: «قد دخلني من إجلال اللَّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضي» «2».

فالإمامة ولاية ملكوتية غيبية وليست ولاية ملك مادّي فقط، بل ولاية عبودية للَّه تعالي. والولاية أعلي رتبة من النبوّة، وذلك أنّ الولاية هي جهة القرب والارتباط باللَّه تعالي، فولاية كلّ نبيّ هي أعلي وأشرف من نبوّته؛ لأنّها جهة عبودية النبيّ للربّ تعالي، فلذلك الولاية أعظم من النبوّة، أي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه.

قوله تعالي: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ» «3»

، إنّ غواية إبليس وإضلاله لا تشمل المخلَصين- بالفتح- فهم معصومون عن غواية إبليس علي صعيد العمل وعلي صعيد العلم.

وإنّ سورة الصافات في أربع مواضع ذكرت (عباد اللَّه المخلَصين).

1- قوله تعالي: «وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «4».

2- قوله تعالي: «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «5».

3- قوله تعالي: «فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لُمحْضَرُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «6».

2- قوله تعالي: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 566

فوصف اللَّه تعالي هؤلاء العباد بأنّهم مخلَصين لا تقع منهم معصية ولا يراودهم شكّ أو شبهة، فهم مخلِصين للَّه في عبادتهم، ومخلَصين من أي ذنب أو قبيح.

لذا فإن قوله تعالي: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ»، حيث نزّه اللَّه تعالي عن كلّ وصف إلّاتوصيف عباد اللَّه المخلَصين، وهي أعلي مقامات المخلَصين التي تعني المعرفة الحقّة له تعالي.

فالصلاح الذاتي وما يترتّب عليه من صفات لم يكن كسبياً، بل هو منصب

إلهي اصطفائي جعلي؛ وذلك لقوله تعالي: «وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ» «1»

.ومثله الرشد الذاتي اللدني حيث لم يكن عادياً كسبياً، بل هو إلهي جعلي يمنّ علي خاصّة عباده؛ لقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ» «2».

المشاركة في الحجية: … ص: 566

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ» «3»

، فهذه مشاركة بين موسي وهارون في الحجّية، فنزول الفرقان لم يختصّ به موسي، بل شاركه هارون كذلك. وهذا مفاد حديث المنزلة، إذ كونه عليه السلام من النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله بمنزلة هارون من موسي، يشير إلي جنبة مشاركة ما ينزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، شركة تابع له كما في قوله تعالي: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ» «4»

.أي يتلو النبيّ صلي الله عليه و آله ويشهد الوحي عياناً وهو البينة من الربّ وهو رجل من النبيّ من نفسه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 567

فقد ورد عنه صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» «1»

، وغيرها من الموارد التي تشير إلي المشاركة، كآية المباهلة وآية التطهير.

النموذج السابع: عيسي عليه السلام: … ص: 567

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِي ءُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «2»

.فهذه المناصب بعضها لا ربط لها بالنبوّة بما هي نبوّة، وكونه رسولًا هو أحد مناصبه صلي الله عليه و آله، وقوله «أَخْلُقُ لَكُمْ..» بمعني الخلقة والتكوين وليس هو تشكيل الطين علي هيئة الطير فقط.

إنّ شبهة كون الخلقة التي يتولّاها عيسي عليه السلام هو تشكيل فقط دخلت علي العامّة، محتجّين بها علي كون الخلق لا يمكن أن يقوم به غير اللَّه تعالي، في حين

نقول إنّ الخلقة بأمر اللَّه تعالي ولا مانع من أن يقوم بها أحد عباده المصطفين الذين اصطفاهم اللَّه لهذه المهمّة.

وإنّ تشكيل المادّة لا يقال لها خلقة، بل الخلقة هي حالة إيجاد وتكوين بأقدار اللَّه تعالي وإرادته، مع إمكان تفويض ذلك إلي خاصّة عباده كما هو الحال في عيسي عليه السلام، تفويضاً غير عزلي أي من دون أن يكون الباري تعالي معزولًا ولا النبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 568

عيسي عليه السلام ونحوه من الأولياء مستقلّاً في فعله كما هو الحال في غير ذلك من الأفعال، لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ويُستدلّ علي ذلك بقوله تعالي:

«فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا» «1»

، فالنفخ هنا خلق كما في نفخ الصور، فالنفخ هنا ليس تشكيل، إذ الخلق للطير متفرّع علي نفخ عيسي عليه السلام.

ثمّ إحياء الموتي ليس هو كخلق الطير، بل إحياء الموتي هو تزويج الروح بالبدن.

وقوله تعالي: «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ اللَّهِ»، فالإبراء وإن كان إحياء وخلق لكن خلق حال وليس إعادة لحياة الذات، وهذا ما يمكن تصوّره في أولياء اللَّه المصطفين كالأئمّة عليهم السلام؛ إذ إمكان إعطائهم هذه الحبوة كما أُعطيت لعيسي ليس تفويضاً عزلياً باطلًا تعزل فيه قدرة اللَّه تعالي وهيمنته وقاهريته وقيوميته، كما هو الحال في أفعال الإنسان لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ولا فرق في تمكين وإقدار الباري للمخلوق علي الفعل بين فعل النملة وفعل عزرائيل وميكائيل وأعاظم الملائكة والأرواح؛ فإنّه بقانون واحد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ومن لا يميز بين التفويض العزلي الباطل وبين التفويض بمعني الإقدار والتمكين في حين قدرته تعالي من انحسار لقدرته فيما أقدرهم عليه، يحصل لديه الخلط بينهما، كما أشار

إليه أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَي إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «2»

، إنّ أُصول الدين لا تُنسخ، بل النسخ يكون في الفروع، كما أنّ أركان الفروع غير منسوخة، فأُصول المحرّمات هي واحدة في كلّ الشرائع كحرمة الزنا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 569

والكذب والغشّ وغيرها، وكذلك أُصول الواجبات.

فالنسخ لا يكون في المعارف ولا إلغاءً لها، بل الحال فيها حالات تكامل وتوسّع وتعمّق، وكذلك الكتب الإلهية في نسخها الأصلية غير المحرّفة والتي هي عند الإمام المهدي (عج) لكونه وارث الأنبياء والمرسلين كذلك، وشرائعها السابقة لها قدسيتها في القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت عليهم السلام.

فمع أنّ عيسي عليه السلام قد نسخت شريعته، فهو مع ذلك سيكون له دور مهمّ في شريعة الإسلام، إذ سيؤدّي دوره المقدّر من قبل اللَّه تعالي حيث نزوله من السماء والتحاقه بالإمام المهدي المنتظر (عج).

علي أنّه تجدر الإشارة إلي أنّ غيبة الإمام (عج) لا تعني أكثر من خفاء هوية وليس تغييباً لوجوده ولا إبعاده عن مسرح الأحداث ولا مزايلة عن تدبير الأوضاع البشرية، ولذلك الاعتقاد أدلّة قائمة قد مرّ الإشارة إليها. وظهور الإمام (عج) يعني ظهور هويته المغيبة أي المخفية المستترة، وليس بداية لحضور وجوده الشريف، بل وجوده حاضر بيننا نعيشه بوجداننا وأعماقنا.

وكلمة (متوفّيك)، أي قابضك، فهو قبض له حتّي يبعثه اللَّه إلي حيث يوجّهه لمناصرة وليه الإمام المهدي (عج) ومؤازرته.

قوله تعالي: «وَآتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «1»

، فروح القدس حبوة إلهية لعيسي عليه السلام، وهي ليست من خصائص النبوّة كما أنّ روح القدس قد تقدّم الحديث عنه مبسوطاً في الفصل السابع في مباحث ليلة القدر، وهو نور كما فُسّر

بلحاظ الهيمنة العلمية، فهو مع الأئمّة عليهم السلام، وهو بلحاظ المناصب الأُخري غير النبوّة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 570

قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «1»

، ومضافاً إلي كون عيسي عليه السلام رسول اللَّه فقد وُصِف أيضاً بأنّه كلمته وأنّه روح اللَّه. والكلمة هي الشي ء التكويني الدالّ علي معني بدلالة تكوينية لا فرض اعتباري أدبي، وهذا المعني هو الأصل في معني ومصداق الكلمة حقيقة، وأمّا الكلمة التي تتداول في الكلام المحاوري فهي اعتبارية يعتبرها ويفترضها المتكلّم والمخاطب فيما بينهم، فعيسي هو كلمة اللَّه وهو اسمه أيضاً؛ لأنّ الاسم في اللغة يعني السمة والعلامة، وهو نفس معني كلمته وهو آية من آيات ربوبيته كما قال تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

، وقال تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «3»

، والآية في اللغة العلامة والسمة أيضاً، وعليه تكون الآية والكلمة والاسم بمعني واحد، أو مشتركة في أصل معناها.

وكونه روح اللَّه يعني بوجوده وولادته وحالاته الملكوتية خروجه من الغيب مقاماً، فأضيفت إلي الذات الإلهية تشريفاً لمقامها.

وقد قام الدليل علي أنّ الأئمّة كلمات اللَّه كما في قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «4»

، ولعلّ الإشارة في كلمات الصدق وتمامية الكلمات صدقاً هو للمرسلين، وتمامية الكلمة عدلًا هو لجعل اللَّه تعالي للأئمّة الهادين بأمره الذين يوحي إليهم فعل الخيرات وإقامة العدل، ولا ريب أنّ من كلمات اللَّه في عموم هذه الآية هو النبيّ عيسي عليه السلام، فالمراد من الكلمات هم الحجج المصطفين.

وقد ورد من طريق الفريقين في قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 571

عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1»

، فقد روي

الحاكم في مستدركه: «أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلي العرش فوجدتُ مكتوباً فيه: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك فعرفته أحبّ الخلق إليك» «2».

وقد تقدّمت الإشارة في قوله تعالي حول مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» «3»

، أنّ مقتضي المقابلة بين الكلمات والكتب قرينة علي إرادت الحجج المصطفين الذين منهم النبيّ عيسي عليه السلام، كما ورد عين هذا التعبير في قوله تعالي لزكريا «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «4»

، أي مصدّقاً بالنبيّ عيسي، نظير التعبير بمريم: وصدّقت بكلمات ربّها، فكلمات اللَّه وكلمة الربّ تطلق علي كلّ من اصطفاه اللَّه من أولياءه الحجج، سواء جعله نبيّاً رسولًا أو جعله إماماً للناس خليفة له في أرضه، فلا مجال للإنكار ولا للتنكّر عن هذه المعارف القرآنية؛ إذ عيسي حُبي بهذه الحبوة وهو كونه كلمة، وهذه الحبوة ليست من مناصب خصوص النبوّة ولا من حالاتها، وإنّما هي من شؤون عموم الاصطفاء والجعل الإلهي.

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «5»

، طلب عيسي من اللَّه سبحانه أن يُنزّل مائدةً من السماء اطمئناناً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 572

لقلوب الحواريين وقد استجاب اللَّه لسؤاله وأكرمه بنزول المائدة، فكانت تلك المائدة كرامةً لعيسي بن

مريم عليه السلام، علماً أنّ هذه الكرامة ليس لخصوص منصب كونه نبيّاً ورسول اللَّه، بل لكونه حجّة إلهية، وبذلك فقد ألقي اللَّه حجّته علي الحواريين بحجّية عيسي بن مريم، علي أنّ الحجّية كلّما اشتدّت كلّما اشتدّت العقوبة واشتدّ تنجيزها.

قوله تعالي: «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَي بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» «1»

، قد تفسّر البينات بالمعجزة، إلّاأنّ المعجزة مشتركة مع جميع الأنبياء، فلا يبعد أن تكون البينات منزلة إلهية غير أصل معجزة النبوّة، والقرينة علي ذلك هو مجيئه بالحكمة، فهو إشارة إلي خصوصية اختصّ بها عيسي إضافة لنبوّته.

والعامّة لا يثبّتون للنبيّ من وراء نبوّته مقاماً آخر، وهذه مشكلة تُضاف إلي الأذهان لتتبلّد عن معرفة النبوّة ومقاماتها الإلهية وكراماتها من اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 573

القائمة الثالثة معجزات الأنبياء … ص: 573

إنّ الهدف من المعجزات هو التصديق والإذعان والإخبات لنبوّة النبيّ الذي يأتي بالمعجزة.

فإتيان موسي عليه السلام بتسع آيات أي معجزات فكلّما أتي بمعجزة ورأوا العذاب قد حلّ بساحتهم، سألوا موسي أن يرفع اللَّه عنهم ما أصابهم حتّي يؤمنوا لمّا شاهدوا من الحقّ، فإذا رُفع عنهم العذاب رجعوا إلي ما هم عليه من التكذيب والبهتان. وهكذا تستمر المعجزة باستمرار الحاجة في التصديق وإلقاء الحجّة علي القوم الذين يأتيهم إنذار من اللَّه تعالي. والمعجزة من سنخ الهداية الإيصالية لا الإرائية المحضة.

وهكذا في جميع الأنبياء تُلاحظ حالات الإعجاز المتواترة المستمرّة. كما أنّ المعجزة ليست إلّاما عجزت جميع البشرية عن إتيان مثلها، فتحدّي صالح عليه السلام قومه بإتيان ناقة من الجبل لا يعني تحدّ لقوم صالح وحدهم، بل إنّ التحدّي هذا مستمرّ علي مدي استمرار البشرية قاطبة وإلي أبد الآبدين.

فالخطاب والتحدّي عام شامل، فالمعجزة هو التحدّي لإقرار ادّعاء

منصب إلهي.

كما أنّ المعجزة شرطها مقام التحدّي فضلًا عن كونها حبوة، إلّاأنّ الإعجاز استمراره قائم إلي اليوم، وسرّ ذلك أنّ آيات اللَّه باقية حتّي اليوم والكلام في المقام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 574

هو كون البينات والآيات المتولّدة من المعجزة سواء كانت علمية أو تكوينية استمرارها وقابلية تحدّيها إلي اليوم.

وخصائص القرآن الإعجازية أنّه علمي، أي أنّ المعجزة القرآنية في عين أنّه علم فهو قدرة إعجازية غيبية.

ثمّ هل أنّ التصديق من سنخ الهداية الإيصالية أم الهداية الإراءية؟

والهداية الإراءية معرفة المطلب وتشخيصه والتنجيز وإقامة الحجّة، أما الإيصالية فهي الإيصال إلي الهدف. والإمامة هي هداية إيصالية، والذي يدلّل علي أنّ الأنبياء المرسلين كلّهم اشتملوا علي مقام آخر وهو كونهم أئمّة هداة:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «1»

، هو إتيان الأنبياء للمعاجز، إذ هو دالّ علي أنّ هناك غرض إلهي وهو الهداية الإيصالية، فالهداية الإيصالية هي محطّ غرض إلهي وهي الإمامة، وحينئذٍ فإنّ هذه المعاجز هي في صدد الهداية الإيصالية، وبمعني آخر: فإنّ المعاجز لا يقتصر غرضها علي الإرادة والهداية الإراءية وإقامة الحجّة فقط كما اشتهر عند المتكلّمين.

بل إنّ غرضها هو الهداية الإيصالية، كذلك هي الإمامة، وممّا يعزّز ذلك ما أشرنا إليه في مواضع متعدّدة من أنّ المعجزة ليست مجرّد برهان من العلم الحصولي كما اشتهر عند المتكلّمين، بل هي برهان عياني من العلم الحضوري؛ إذ في المعجزة يدرك ويلمس من يُحتجّ عليه بها لمعان الغيب ويشهد رفع الستار عن وجه من القدرة الغيبية، ومن ثمّ صحّ ممّن احتجّ عليه بالمعجزة أن يشهد ويتشهّد بمؤدّي المعجزة، أي بالأمر الذي أُريد إثباته بالمعجزة، كما يتشهّد المؤمن بالشهادتين وبالشهادة الثالثة، حيث إنّ ذلك التشهّد ليس استعمالًا مجازياً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 575

ولا إقراراً لسانياً كلقلقة محظة،

بل هو إخبار قطعي وإنباء عمّا أدركه شهوداً.

ولا سبيل للمؤمن لشهود التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد إلّابعيان الأدلّة الإعجازية سواء العلمية أو الآيات الخارجية: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» «1»

. ومن ثمّ أجاز النبيّ صلي الله عليه و آله شهادة خزيمة بن ثابت فسُميّ بذي الشهادتين.

وعلي ضوء ذلك فإنّ من شأن المعجزة الجذب والهداية الموصلة إلي المطلوب من دون إلجاء، فدور النبوّة هو الاحتجاج بتوسّط التعريف بالغرض والغاية، في حين أنّ الإمامة هي إيصال للغرض، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «2»

، فالمنذر هو معرّف للغرض، والهادي هو الموصل بالهداية الإيصالية إلي الغرض. ومعني ذلك أنّ الإراءة والبيان من صنع اللَّه تعالي، أمّا الإيمان- أي التصديق- فهو من فعل البشر، فالنبيّ الباطن هو العقل النظري، إلّا أنّ العامّة تري أنّ النبوّة هي مجرّد إراءة وبيان وليس أكثر من ذلك.

فالمعاجز دالّة علي أنّ أصحابها لهم مقام الإمامة والتي هي هداية إيصالية دائمة متواجدة، وكونها أحد الأغراض الإلهية الهامّة في بعثة الأنبياء.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 577

القائمة الرابعة مؤدّي السنّة الإلهية في معاجلة العذاب للأمم … ص: 577

وهو مسلسل العذاب والعقوبات التي تطال الأُمم في دار الدنيا، وهذا المسلسل يطالعنا فيه القرآن الكريم في موارد عدّة، مثل قوم لوط وعاد وقوم ثمود وصالح وموسي.

ومسلسل هذا العذاب في صوره العديدة التي يحكيها القرآن الكريم قد رُفِع عن أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله سواء كان المسخ أو غيره، إلّاأنّ بعض صوره الأُخري تراودها وتعاقب بها، من قبيل الأمراض والفتن وغيرها، فضلًا عن الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل وغيرها.

وإنّ الإرادة التشريعية الإلهية للأُمم لم يكتفِ اللَّه تعالي بتنظيرها اعتباراً، بل أراد تحقّقها في النشأة الدنيوية، واللَّه تعالي يعالج بعضهم بالعذاب والغرض منه

إنجاز الهداية الإيصالية، والقرآن يصرّح في سورة الفجر بهذه الحقيقة بقوله تعالي:

«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» «1»

، أي أنّ استمرار المراقبة والرقابة الإلهية المستمرّة لمنع الفساد والطغيان في الأرض.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 578

وكذا في سورة الحشر في إجلاء أهل الكتاب: «وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «1»

، فعلّل معاجلة العذاب لهم في الدنيا بمشاققتهم للَّه ولرسوله، وأنّ هذا سنّة إلهية، وهذا نظير اعتراض الملائكة علي اللَّه تعالي عند خلق الإنسان بأنّه يريد هلاك الحرث والنسل وسفك الدماء، ولكن الباري عزّوجلّ أنبأهم بالواقع وبخلاف ما ظنّوه وهو خلاف ما اعتقدوه؛ إذ من هذا البشر سيكون أولياء وأنبياء وصلحاء، يهدون إلي الخير والوصول إلي الهداية الإيصالية فضلًا عن الهداية التشريعية.

وإنّ الهداية الإيصالية هي من غايات الهداية التشريعية وأن يكون المجتمع البشري مجتمعاً فاضلًا تكاملياً وإصلاحياً لجميع البشر، والوصول إلي الحقيقة وهي العبودية الخالصة للَّه عزّوجلّ والوصول إلي الأهداف والأغراض المطلوبة، هذا مضافاً إلي أنّ فريضة الإيمان بالمعاد الغرض منها هو التحرّك والحركة إلي الهداية الإيصالية فإنّ الإيمان بالمعاد هو لغرض الوصول إلي الغاية الحقيقية وهو الهداية الإيصالية، فكون المعاد ضرورة، بمعني أنّ الأُمور ليست من دون علّة غائية وغرض نهائي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 579

القائمة الخامسة مسلسل سيرة حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله في القرآن … ص: 579

إنّ هذا المسلسل في سيرته صلي الله عليه و آله- خصوصاً في السور المدنية حيث نلاحظ سلوكياته وتصرّفاته السياسية والاجتماعية وغيرها- هي

من نمط الهداية الإيصالية التي هي من نمط الإمامة.

فجانب منها في القضاء، كما في قوله تعالي: «وَإِذَا دُعُواْ إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2»

.وجانب آخر في تدبيره للأموال العامّة، كقوله تعالي: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «3»

وقوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «4»

.أمّا الجانب السياسي والتنظيم الحربي فلقوله تعالي: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَي سَوَاءٍ» «5»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» «6»

، وقوله تعالي: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 580

لَهَا» «1»

، وقوله تعالي: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَي حَتَّي يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ» «2».

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَي إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اخِذَ مِنْكُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» «4»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ» «5»

، وقوله تعالي: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ» «6».

أمّا الجانب الاجتماعي والتقنين الأُسري فلقوله تعالي: «فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَايَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ» «7».

وفي الجانب الأمني قوله تعالي: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَي التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» «8».

فضلًا عن الآيات التي تحدّثت عن إقامة أحكام الحدود مثل الزنا

والسرقة وغيرها.

كما أنّ الولاية العامّة وغيرها ليست مرتبطة بالنبوّة، بل بإمامته وولايته صلي الله عليه و آله؛ لقوله تعالي: «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» «9»

، بيان صلاحيته صلي الله عليه و آله في إقامة المعاهدات مع أهل الكتاب أو قتالهم وحقوق المسلمين وما يتعلّق بشؤونهم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 581

إذن فالموارد التي مارسها النبيّ صلي الله عليه و آله وأقام في حكومته بإجراءاتها وتنفيذ الإرادة الإلهية فيها، أشار إليها القرآن بذكر بعض تفاصيلها فضلًا عن الإشارة إلي أحكامها.

وإنّ أوامر اللَّه تعالي للنبيّ صلي الله عليه و آله التي وردت في القرآن الكريم كانت بمستوي التنفيذ والتنجيز لا التنظير الكلّي فقط، وهي تشريعات لإقامة الدولة، حتّي أنّ المسلم ليشعر أنّ الإسلام له دخل في كلّ تفاصيل حياته اليومية فضلًا عن كلّيات أحكامها، والنبيّ صلي الله عليه و آله كان أوّل مصداق في تطبيق هذه العلاقة القرآنية.

وبعبارة أُخري: أنّ أسباب النزول في التشريعات القرآنية في دولة الرسول وحكومته ليس مفاد سبب النزول وثمرته التي هي بيان المعني الكلّي للتشريع وتوضيحه فقط، بل هناك بعد هام بالغ الخطورة أيضاً في معني سبب النزول لتلك التشريعات القرآنية: هو أنّ تلك الموارد لأسباب النزول تصدّي من اللَّه تعالي لتدبير الحكم السياسي في المجالات المختلفة بإرادة إلهية لا بإرادة نبويّة.

فمن ثمّ التصرّف الحكومي والحاكمي يسند إليه تعالي، فالحاكم الأوّل في حكومة الرسول صلي الله عليه و آله لم يكن النبيّ صلي الله عليه و آله، بل هو اللَّه تعالي يتصدّي في المنعطفات الخطيرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية وغيرها في دولة وحكومة الرسول صلي الله عليه و آله، والحاكم الثاني هو الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك الحال في حكومة أمير المؤمنين

عليه السلام فإنّ الحاكم الأوّل في المنعطفات الخطيرة هو الباري تعالي ثمّ الرسول صلي الله عليه و آله، عبر ارتباط أمير المؤمنين بالغيب بالعلم اللدني، والحاكم الثالث هو أمير المؤمنين كما في الأمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين في برنامج حكومته عليه السلام، وكذلك في حكومة الحسنين عليهما السلام علي العراق، وكذلك في حكومة الإمام المهدي (عج)، وحكومة سائر الأئمّة، فيستشهد بسيرة دولة الرسول في آيات القرآن علي أنّ الحاكمية السياسية في التفاصيل الخطيرة كانت بعهدة الباري تعالي.

وذلك أنّ ممارسة القضاء وإدارة السياسات المالية والاجتماعية وغيرها هي من قبل اللَّه تعالي وثانياً النبيّ صلي الله عليه و آله؛ إذ ولاية الرسول صلي الله عليه و آله التي من خلالها يمارس صلاحياته في الحكم والقضاء هي فرع ولاية اللَّه تعالي، فالحكم الجزئي التنفيذي الإجرائي فضلًا عن الكلّي هو من قبل اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 582

ففي دولة الرسول الحاكم المباشر لا بمعني التجسيم والتشبيه، بل بمعني أنّ إرادته تعالي تتنزّل علي رسوله صلي الله عليه و آله فينفّذها من دون أن يكون التصرّف الحكومي منبعثاً من إرادة الرسول صلي الله عليه و آله، فإرادة اللَّه تعالي متنزّلة في القرارات الجزئية التفصيلية من معاهدات وحروب وعلاقات كذلك.

والإمامية تستشهد بذلك علي الإمامة، وهل أنّ اللَّه تعالي يعمل حاكميته السياسية في فترة معينة دون غيرها من الفترات بغضّ النظر عن ولايته تعالي التكوينية؟

فإذا كان المصدر الرئيسي للأحكام الجزئية التنفيذية التفصيلية في المنعطفات الخطيرة وممارستها من قبل اللَّه تعالي، فهل هذه الممارسة هي لفترة محدودة تقتصر علي الحقبة النبويّة المباركة- أي من خلال وجوده الشريف فقط- دون فترة ما بعد رحيله الشريف، ثمّ تنقطع بعد ذلك ولاية اللَّه تعالي في الإشراف

السياسي وتلغي؟ أم لابدّ لولاية اللَّه تعالي من الاستمرار والدوام والبقاء؟

فإن قلنا بالأوّل- وهو انقطاع ولايته تعالي عند وفاته صلي الله عليه و آله- ألزمنا أنفسنا بالتعطيل وانحسار إرادته تعالي، ومن ثمّ عجزه- والعياذ باللَّه- عن الأمر، وبالتالي عزل إرادته عن الحاكمية علي خلقه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، وقد قال تعالي: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «1»

، وأنكر علي اليهود قولهم: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» «2»

، فيد تصرّفه تعالي مبسوطة لا مغلولة.

وإذا أخذنا بالقول الثاني وهو استمرار ولايته وبقاؤها فعن أي طريق تمرّ وتتنزّل إرادته وولايته تعالي، ومن أي قناة ستكون؟ إذ هو تعالي لا يُحسّ ولا يُجسّ ولا يُجبه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 583

فالقول بولايته تعالي في الحاكمية السياسية في النظام البشري إذن يلزم منه القول بوجود المعصوم في كلّ وقت وفي كلّ زمان، وهو معني قوله تعالي بنحو دائم كلّي عام: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «1»

، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الأرض لا تخلو من حجّة»، فالحجّة هنا هي القناة المعصومة التي من خلالها إمرار ولايته تعالي وإنفاذها علي الخلق، وهو ما يدعو إلي القول بوجود الإمام المعصوم في كلّ آن من آنات الخلق، فهو سفير اللَّه في خلقه.

ولذلك يطالعنا القرآن الكريم بسيرته صلي الله عليه و آله، ويضيف إلي ذلك سيرة الأنبياء الباقين في تأسيس الدولة، كما في سيرة موسي وسليمان وداود وطالوت وذي القرنين، فقد أقاموا دولهم وشكّلوها بأمر إلهي صرف استعرض بعض جوانبها القرآن الكريم.

فمباشرة اللَّه تعالي للتفاصيل السياسية في حاكمية التدبير لجزئيات الأُمور نصّ عليها القرآن الكريم، كما في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ»، إذ هذا الاختبار لأصحاب

طالوت ليس باختياره، بل هو بأمر اللَّه تعالي كما في غيرها من موارد أحكام الأنبياء، إلّاأنّ سيرة النبيّ صلي الله عليه و آله تلاحظ بشكل أكثف وأكبر تركيزاً علي مستوي آيات القرآن الكريم.

وهنا تنبيه يجدر الإشارة إليه: وهو أنّ بعض المفسّرين لم يبلوروا ويميزوا بين التشريع والتنزيل، وبين مورد النزول ومورد التنزيل، إذ جعلوا مورد النزول والتنزيل مجرّد شاهد ومبيّن لمعني التنزيل الكلّي أي التشريع العام لا أكثر من ذلك، وهذا بخس في حقيقة التنزيل.

فالمفسّرون فهموا أنّ التنزيل دوره تفسيري إيضاحي للآية دون أن يكون له

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 584

دور آخر، في حين أنّ التنزيل هو نوع ممارسة فعلية لحاكمية اللَّه تعالي السياسية في الجزئيات التفصيلية وسلطته السياسية، وهذا مفاده غير مفاد التشريع، وقد ذهب أهل سنّة الجماعة إلي هذه الشبهة التي تؤول إلي ما اعتقده اليهود من أنّ اللَّه تعالي شرّع فقط ولم يمارس الحاكمية والسلطة السياسية التفصيلية في تدبير النظام السياسي الاجتماعي والحكم التنفيذي، وهو قوله تعالي: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» «1»

، فالتعطيل الذي تصوّرته اليهود في حقّه تعالي، قد انجرّ إلي بعضهم حتّي عطّلوا إرادته؛ إيهاماً منهم بأنّ اللَّه تعالي لم يمارس ولايته إلّافي حدود التشريع فقط، أي في السلطة التشريعية دون السلطة السياسية التنفيذية والقضائية.

في حين أنّ متابعة سريعة لآيات القرآن الكريم يجد من خلالها الباحث أنّ وقائع قرآنية سواء التشريعية أو المالية أو السياسية أو القضائية وغيرها لم تنفرد فيها إرادة النبيّ صلي الله عليه و آله دون إرادة اللَّه تعالي.

فالتنزيل إذن ليس هو تنزيل لألفاظ التشريع الكلّي فقط لا غير، بل هو أحد جهاته، والتنزيل حقيقة هو

إعمال ولايته تعالي السياسية المباشرة علي جميع الدقائق والجزئيات التفصيلية الخطيرة في منعطفات الحياة الاجتماعية السياسية.

كما أنّ التنزيل هو تطبيق التشريع الكلّي علي مصاديقه، أي استمرار حاكمية اللَّه تعالي السياسية التفصيلية في كلّ الموارد.

ثم إنّ التنزيل والتأويل كلّ منهما انطباق الحكم الكلّي علي مصاديقه، إلّاأنّ الفرق بينهما أنّ التنزيل هو بدء نزول الأحكام، والتأويل هو استمرار نزول الأحكام.

فحاكمية اللَّه تعالي هو تنزيل إرادته في تفاصيل الجزئيات الخطيرة، إذ لا تستند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 585

إلي النبيّ أو الوصيّ عليهما السلام، وهذه موجودة في كلّ دول الأنبياء كما في دول موسي وسليمان وداود، إذ هم محطات، وطالوت، وهذه الإرادة الإلهية تمارس من قبل المعصوم عليه السلام، وحيث ورد أنّهم أوعية لمشيئات اللَّه تعالي، ممّا يعني أنّ الإرادة الكلّية تتوزّع وتتفصّل علي كلّ الإرادات الجزئية، وهذا هو التأويل أي أوْل الإرادات الجزئية إلي الإرادة الإلهية الكليّة، أي رجوع كلّ الإرادات إلي الإرادة الإلهية وطريقها المعصوم عليه السلام الذي تمرّ من خلاله إرادات اللَّه تعالي.

هذا هو تفسير نظرية الإمامة حيث تظهر من خلالها أهمّ مظاهر التوحيد وهو التوحيد في الولاية، فالاعتقاد بالنبوّة والرسالة توحيد في التشريع والاعتقاد بالإمامة توحيد في الولاية، فأصول الدين كلّها أبواب للتوحيد حتّي الإيمان بالمعاد توحيد في الغاية «إنا للَّه وإنا إليه راجعون»، فالإمامة توحيد في السلطة والحاكمية في النظام السياسي الاجتماعي، وذلك من خلال إرجاع كلّ الجزئيات التفصيلية الخطيرة في تدبير النظام البشري لإرادة واحدة تمثّل وحدة المرجع الربوبي عن طريق قناة معصومة يمثّلها الإمام، ممّا يعني أنّ هناك منصب غير منصب النبوّة يتمّ من خلاله تدبير الشؤون الكلّية والجزئية، وهي نوع إعمال للإرادة الإلهية القاهرة.

كان النبيّ صلي الله عليه و آله له ذلك المنصب

وهو الإمامة، ولابدّ من استمراره من بعده إلي يومنا هذا، بل إلي يوم القيامة؛ لضرورة استمرار ولاية اللَّه تعالي في الحاكمية والسلطة السياسية علي البشر، وفي زماننا هذا هو الإمام المهدي (عج)، حيث يدبّر ويدير النظام البشري عبر خفاء الغيبة وسريتها إلي أن يئنّ آن الإعلان والظهور.

إلي هنا تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع بإذن اللَّه تعالي وهو المستعان وله المنّة والفضل والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.